قدم الرئيس الأسد مقاربة فكرية شاملة في كلمته أمام “الملتقى العربي لمواجهة الحلف الأميركي الصهيوني الرجعي العربي ودعم مقاومة الشعب الفلسطيني” هذا الاسبوع، شكلت في هذا التوقيت المفصلي، تطوراً نوعياً في الفكر القومي العربي في العديد من الجوانب، وقد تكون من أهم ما قدمه دعاة القومية العربية مؤخراً من نقد وتطوير للطروحات، فكان لا بد من تحليلها بدراسة تقييمية ونقدية من منظار قومي اجتماعي، كإسهام في تحصين المجتمع وإعادة بناء نظام سياسي متين ومعاصر بعد انتهاء الحرب.
لا بد أولاً من التنويه بالتطور الكبير الذي أضافته الكلمة على الأطروحات التقليدية لدعاة القومية العربية، من خلال محاولة تجاوز نقاط الضعف التي أدت الى أزمات عديدة لتطبيقات هذه النظرية على مدى العقود الماضية، كما سنوضح في متن هذه الدراسة. وقد أدى هذا التطوير الى مقاربة أكثر واقعية للشأن القومي بشكل عام ولمشاكل المجتمعات العربية، والى تقارب أكبر مع الكثير من الطروحات القومية الاجتماعية، مع بقاء العديد من نقاط التمايز التي سنتناولها بالنقد العلمي، كاستجابة لدعوة الرئيس الى الحوار مع الأفكار الأخرى الموجودة على الساحة القومية. وسنتجنب في هذه الدراسة النقاشات السياسية خاصة المتعلقة بالحرب في الشام والمواقف من النظام أو معارضيه، بحيث نحصر هدف الدراسة بالمشاركة في النقاش الفكري البحت الذي يؤسس للمرحلة القادمة ومواجهة تحديات البناء وإعادة الوحدة الى النسيج الاجتماعي في الشام.
وسنتناول في بحثنا النقاط التالية التي شكلت برأينا المحاور الأساسية للكلمة: حول أهمية القومية والانتماء، العلاقة بين العروبة والإسلام، في تعريف العروبة، في مفهوم القومية، في تحديد المجتمع والأمة والوطن، حصر الخيارات في ثنائية القطرية والقومية العربية، رد الفعل على السياسات العربية، ربط العروبة بالتخلف، من تعبئة الجماهير الى وعي الشعب، وأهمية التمسك باللغة العربية.
حول أهمية القومية والانتماء
في النظرية التقليدية للقومية العربية، حيث العوامل الأساسية هي اللغة والدين، كان مفهوم الانتماء للأمة مطاطاً عاطفياً وأحياناً لا يعطي الأهمية المطلوبة لعامل الجغرافيا والأرض. وكان القوميون العرب يقولون أحياناً كثيرة بالأمة العربية الواحدة والمجتمعات العربية المتعددة بنفس الوقت. بينما حسمت القومية الاجتماعية أن الأمة هي مجتمع واحد ينشأ في بيئة محددة، فيكون الانتماء القومي واضحاً ومحدِّداً للأمة الواحدة والمجتمع الواحد والوطن الواحد – البيئة الجغرافية الطبيعية.
التعريف الذي يعتمده الرئيس الأسد للقومية يعتبر تطويراً للمفهوم التقليدي، حيث يوضح أن “القومية هي الهوية وهي الانتماء.. القومية هي ماضي وحاضر الشعوب وهي أساس وجودها..” وأن “الانتماء القومي بشكل طبيعي يشمل التاريخ والجغرافيا وكل هذه الأمور..”
ويحدد أن ضعف الانتماء القومي وضعف الشعور القومي هو ما أودى بشرائح “من مجتمعاتنا العربية (…) للذهاب باتجاهات أخرى فذهبت باتجاهين رئيسين في بدء الأحداث.. إما الارتماء بأحضان الأجنبي.. بغض النظر عن أي أجنبي كان.. أو الارتماء بأحضان التطرف الإسلامي باعتباره هوية بديلة عن الهوية العربية..” مما أدى الى “تشتت هذا المجتمع إلى مجموعات.. البعض منها متباعد والبعض متنافر.. والبعض متناحر ومتصارع”.. ويتابع: “الغرب كان بارعاً في أدائه.. كان بارعاً في نصب الأفخاخ.. ونحن كنا بارعين في السقوط في هذه الأفخاخ.. الغرب بنى مخططاته على الوقائع والحقائق التي نعيش فيها.. أما نحن فكنا دائماً نبني رؤانا على العواطف.. هو كان فاعلا ونحن كنا منفعلين.. ”
يشبه هذا التفسير لمسببات الأزمات والوهن، تساؤل أنطون سعادة قبل قرابة قرن من الزمن: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟ حين خلص الى نتيجة أن السبب هو “غياب الوعي القومي وفقدان السيادة القومية”.
والتركيز على عامل الجغرافيا والتاريخ في تحديد الانتماء القومي هو نقلة نوعية في توصيف القومية، كما سنفصل خلال المقال.
كما أن نقد التوجه التقليدي العاطفي الانفعالي لصالح التخطيط العقلاني المبني على الوقائع والحقائق هو بحد ذاته مدخل مهم لإعادة تصويب العمل القومي على أساس العقل والعلم، بحيث يصبح التركيز هو على كيفية إعادة ترسيخ الوعي القومي واستعادة السيادة القومية بشكل علمي منهجي معاصر.
العلاقة بين العروبة والإسلام
أدى التماهي التاريخي عند دعاة القومية العربية بين العروبة والإسلام المحمدي الى إهمال معالجة تداخل الدين والطائفية والمذهبية مع الحياة السياسية، والى التغاضي عن نمو حركات طائفية في المجتمع، وحتى داخل العديد من الأحزاب القومية العربية، مما سمح لاحقاً الى تسرب الفتنة من هذه الفجوة. وقد أدى ذلك الى قصور الأنظمة عن بناء الدولة المدنية الحديثة، والى اتهام هذه الأنظمة بأنواع مختلفة من الطائفية والامتيازات، خاصة مع غياب الحياة السياسية التعددية وقمع الحريات، فأصبحت مراكز العبادة هي ملجأ الفئات المهمشة. وعندما استخدم الغرب مسألة الصراع السني الشيعي لاختراق المجتمعات العربية، خاصة في سورية الطبيعية، كان الواقع السياسي والاجتماعي حاضراً للانفجار. كما ثبت أن التغاضي عن هذه الحقيقة، حقيقة النتائج الكارثية لتداخل الإسلام مع العروبة، والقفز فوقها لمسايرة الطوائف أو الفئات التي لم يصل اليها الوعي القومي، بحجة اجتذابها هو تأجيل للمشاكل دون معالجتها جذرياً.
وقد حسمت القومية الاجتماعية من زمن بعيد ضرورة فصل الدين عن الدولة ومنع رجال الدين من التعاطي في شؤون السياسة والقضاء، وبناء الإنسان الجديد على انتماء قومي اجتماعي واضح وجلي، لترسيخ الوحدة الاجتماعية والتأسيس للدولة العلمانية الديمقراطية الحديثة، دون معاداة الأديان والطوائف ومع ترك الحرية الكاملة للأفراد في اعتقاداتهم الدينية شرط أن لا يؤدي ذلك الى نشوء اية حواجز دينية أو طائفية أو مذهبية داخل المجتمع الواحد. ويختلف هذا التوجه الذي يحترم الدين كرسالة روحية ويحترم حرية المعتقد الديني لدى الافراد، عن الدعوات العلمانية الالحادية أو المعادية للدين التي سادت في الغرب أو في العالم الاشتراكي السابق.
في هذا المجال يقول الرئيس الأسد أن العلاقة بين العروبة والإسلام هي “إحدى النقاط التي لا بد من معالجتها لكي نتمكن من تسويق خطابنا لدى أوسع شرائح المجتمع العربي”، وأن “أول مشكلة كبيرة نواجهها على مستوى العمل القومي هي ضرب علاقة الإسلام مع العروبة.. اتهموا أو وصموا العروبة بصفة العلمانية.. ووصفوا العلمانية بصفة الإلحاد.. فربطوا العروبة والعلمانية والإلحاد برابط واحد.. وقالوا للمواطن البسيط.. عليك أن تختار بين الإيمان وبين الإلحاد.. فمن الطبيعي أن يختار الإيمان.. ويكون بالمقابل ضد أي انتماء آخر في مواجهة أو مقابل الإيمان والإسلام..”
تجدر الإشارة أن حزب البعث في الشام لم يعتمد العروبة العلمانية وحاول خاصة منذ الثمانينات من القرن الماضي مسايرة الإسلام المحمدي بحجة العلاقة العضوية بين الإسلام والعروبة. ولو كان افتراض أن ربط العروبة بالإسلام فعالاً، لما كنا رأينا كل هذه المآسي الطائفية البغيضة والتجييش المذهبي الذي استظل الدين لضرب أساسات المجتمع خلال الأزمة في الشام بعد أكثر من ثلاثة عقود من اعتماد هذه السياسة. كما أن الذين ساروا في ركب التيارات الإسلامية لم يفعلوا ذلك بالضرورة لأنهم كانوا يعتبرونها بديلاً عن الانتماء القومي العربي، بل أيضاً في أحيان كثيرة كرد فعل مذهبي على ما اعتبروه امتيازات مذهبية اتهموا النظام الحاكم بها. وقد سار في ركب الموجة الطائفية الكثير من البعثيين الذين لم يكونوا محصنين عقائدياً بسبب الخلط والتماهي بين القومية العربية والإسلام.
ويتابع الرئيس: “هناك ارتباط عضوي بين العروبة والإسلام.. هناك تقاطع.. ليس بالضرورة تطابقا.. هناك هامش لكل منهما.. ولكن لا يوجد تعارض بكل تأكيد.. ومن الخطأ أن يفكر الكثيرون بأنه إما أن أكون عربياً أو أن أكون مسلماً.. لذلك ضرب هذه العلاقة من خلال تطرف الإسلام يؤدي لضرب العروبة.. حرفوا الإسلام.. دفعوه باتجاه التطرف.. انفصل عن العروبة.. فضعف الإسلام.. وضعفت العروبة.. ”
هل سياسة الدولة في الشام والحزب الحاكم في العقود الماضية كانت تقوم على التعارض بين الإسلام المحمدي والعروبة؟ ألم يكن التماهي والتقاطع هو ما أدى من جهة الى التغاضي عن نمو الحركات الدينية، ومن جهة أخرى الى تشويش انتماء حتى الكثير من البعثيين؟ وهل صمدت العروبة المتقاطعة والمترابطة مع الاسلام، كهوية قومية، أمام هجمة الإسلام السياسي في الكثير من الأحيان؟ بل ألم تكن هذه العروبة مدخلاً سهلاً لتيارات الإسلام السياسي؟
الهوية القومية لا يجب أن تتعارض مع الاعتقادات الدينية للأفراد، لكن خلط الاعتقادات الدينية مع الهوية القومية في مجتمع متعدد مثل مجتمعنا يؤدي الى خلخلة الانتماء القومي والتمييز بين المواطنين من جهة، والى الاستنسابية في النظر الى التاريخ وحقباته، الذي هو من مكونات الهوية القومية.
في تعريف العروبة
واجهت القومية العربية التي ربطت العروبة بالإسلام إشكاليات في التعاطي مع فئات الشعب التي لها اعتقادات دينية أخرى، أو جذور عرقية غير عربية. كما واجهت إشكالية في التعاطي مع التاريخ القديم خاصة في سورية الطبيعية ومصر، حيث تمتد جذور الحضارة الى آلاف السنين قبل الإسلام. ففي الشام، وحتى اليوم، تعتمد وزارة التربية في مناهجها التربوية، بتأثير من دعاة القومية العربية، تصنيف الحضارات السورية القديمة، من كنعانية وأمورية واشورية وآرامية وغيرها كحضارات عربية، مع أنها لا علاقة لها لا باللغة العربية ولا بالعربة، وهي سابقة لدخول اللغة العربية والإسلام. وكان هذا الإجراء بتسييس التاريخ هو الحل النظري الأسهل لهذه الإشكالية، لأن ربط الهوية القومية بالعروبة والإسلام من المفترض أن يُخرج كل هذا التاريخ السوري العريق في مراحل ما قبل الإسلام من تشكيل الهوية القومية العربية.
وقد قدم الرئيس الأسد توصيفاً متقدماً حول تعريف العروبة، يحاول توسيع مفهوم العروبة لتخطي النظرة العرقية العربية على حد وصفه، مع أن ذلك يتناقض مع تعريف المناهج السورية للحضارات السورية القديمة بأنها عربية. فيقول: “إن العروبة والقومية العربية هي حالة حضارية وثقافية وإنسانية جامعة ساهم فيها كل من وجد في هذه المنطقة دون استثناء فهي لا تقوم على دين أو عرق محدد وإنما أساسها اللغة والجغرافيا الواحدة والتاريخ والمصالح المشتركة.”
إن نفي قيام العروبة على الدين والعرق هو تطور نوعي، مع أنه يتناقض مع ربطها أعلاه بالإسلام. كما أن إدخال الجغرافيا الواحدة والتاريخ والمصالح يعتبر تطوراً نوعياً آخر، ولكن مع إغفال أن الجغرافيا العربية ليست واحدة بل أقاليم أربعة متقاربة، والتاريخ لم يبدأ بالإسلام واللغة العربية، والمصالح تحكمها الدورة الحياتية الاقتصادية الاجتماعية الواحدة في البيئة الجغرافية الواحدة، التي هي غير موحدة على مدى العالم العربي. بل ان النظرة الى واقع العالم العربي تشير الى إمكانية قيام اربعة دورات اقتصادية اجتماعية في البيئات العربية الأربع: سورية الطبيعية، الخليج العربي، وادي النيل، والمغرب العربي، مع إمكانية التعاون فيما بينها الى حد التكامل مع الوقت، من ضمن جبهة عربية واحدة تشترك حالياً باللغة والتاريخ.
ويتابع الرئيس: “العروبة لم يبنها العرب.. وخاصة في المناطق المتنوعة كسورية ومنطقة بلاد الشام.. وأعتقد في معظم الدول العربية.. العروبة هي حالة حضارية ساهم فيها كل من وجد في هذه المنطقة من دون استثناء.. وبالتالي التراث العربي والثقافة العربية هما مجموع تراث وثقافات كل الأقوام التي وجدت في هذه المنطقة عبر التاريخ القديم والحديث.. هي حالة ملتصقة بالجميع لا تتعارض مع أحد ولا تلغي أحداً.. يمكن لأي شخص أن ينتمي لهذه القومية وأن ينتمي لأي قوم آخر ولديه ثقافة وعادات وتقاليد ولغة وأي شيء آخر ولكن هو ينتمي بحكم التاريخ والجغرافيا والمصالح.. والأهم اللغة التي تجمعنا جميعاً.” ويؤكد على “أهمية تفنيد الطرح العرقي المناهض للتوجه القومي وخصوصاً في ظل محاولات تقسيم دول المنطقة على أسس عرقية وذلك من خلال التأكيد على أن العروبة تشمل كل الأعراق والأديان والطوائف وبالتالي فإن التراث العربي والثقافة العربية هي مجموع تراث وثقافات كل الأقوام التي عاشت في هذه المنطقة عبر التاريخ القديم والحديث.”
هذا التوصيف يقترب كثيراً من مفهوم القومية الاجتماعية، ويصلح لتوصيف واقع كل واحدة من بيئات العالم العربي، فيسري على واقع سورية الطبيعية والقومية الاجتماعية فيها، التي هي حالة حضارية ساهم فيها كل من وجد في سورية الطبيعية منذ آلاف السنين، واستمر هذا العطاء الحضاري بعد قدوم الإسلام واللغة العربية، حيث أن حركة الترجمة التي قام بها اهل البلاد الاصليون، خاصة السريان منهم وقتها، اسهمت في نقل الآداب والعلوم السريانية واليونانية والفارسية وغيرها الى اللغة العربية، التي أكملت الأمة السورية عطاءاتها الحضارية بها منذ الحقبتين الأموية والعباسية حتى اليوم. فأصبحت الثقافة السورية التي وصلتنا اليوم باللغة العربية والتي تعبر عن هوية بلادنا هي نتاج مستمر على مدى العصور. وهكذا هي الهوية المصرية-السودانية التي لها خصوصياتها المستمدة من تاريخ الحضارة الفرعونية التاريخية واستمرارها باللغة العربية، وكذلك الهوية المغاربية والهوية الخليجية، والتي تفاعلت مع بعضها وتلاقحت مع الوقت، دون أن تلغي خصوصيات هويات هذه الأقاليم. فتأثيرات الثقافة الامازيغية والبربرية ضئيلة جداً في السوريين. وكذلك الأصول الفرعونية لبلاد وادي النيل. وكذلك فإن تأثير التراث التاريخي السومري الأكادي البابلي الاشوري العموري الآرامي السرياني الفينيقي في بلاد الشام على الأقاليم العربية الأخرى بقي محدوداً، لكنه أساسي في تشكيل الهوية القومية لشعب سورية الطبيعية. فإن أردنا أن نُدخل التاريخ والحضارة والجغرافيا والمصالح في تشكيل القومية، وجب علينا أن لا نخلط حضارات البيئات العربية الأربع ببعضها للحديث عن هوية قومية واحدة. ولا يضير العروبة الحضارية وجود هويات حضارية قومية اجتماعية في كل من البيئات العربية، مع السعي لإنشاء جبهة عربية موحدة فيما بينها، يعززها التراث المشترك باللغة العربية، بعد أن تكون كل بيئة قد وحدت مجتمعها وقامت بنهضتها وظهرت ميزات هويتها القومية وخصائصها الحضارية، من ضمن البوتقة العربية الواحدة. ولو كانت اللغة وحدها كافية لتشكيل الهوية القومية لكانت أقوام بريطانيا وأميركا وأستراليا تنتمي الى امة واحدة. ولكانت سويسرا مقسمة الى عدة أمم.
في مفهوم القومية: القومية العرقية الدينية والقومية الاجتماعية
يتابع الرئيس في نوع من نقد للمقولات القديمة للقومية العربية: “وضعت القومية العربية في مواجهة قوميات أخرى.. هل هي قوميات… هل هي أقوام… هذا موضوع بحاجة لمفكرين لكي يناقشوه.. ولكنهم قالوا بأن هذه القومية توجد في منطقة متنوعة عبر التاريخ.. ولم تكن في الماضي هناك أي حروب وأي صراعات بين هذه القوميات.. والسؤال.. لماذا ظهر هذا الصراع الآن… لأن الاستعمار مع مرحلة الاستقلال زرع بذور الفتنة بين تلك القوميات.. وبالتالي بغياب وجود حصانة فكرية من قبل مجتمعاتنا.. نمت هذه البذور.. وتمت سقايتها سواء من قبل أعداء الفكر القومي.. أو من قبل بعض القوميين.. من خلال فكر سطحي وبأداء جاهل.. نمت هذه البذرة وتعمقت وتجذرت وأصبحت معالجتها اليوم بحاجة لجهود مضاعفة.. كيف فعلوا ذلك… وضعوا القومية العربية بقفص عرقي.. وقالوا إن هذه القومية تنتمي لعرق محدد.. وهو العرق العربي.. أي أبناء قحطان وعدنان.. إن لم تكن من أبناء فلان وفلان.. فعليك أن تبحث عن هويتك في مكان آخر.. وبالتالي خلقوا أيضاً شرخاً تدريجياً بين أبناء الأقوام التاريخية التي وجدت في هذه المنطقة بشكل عام عبر التاريخ.. وظهر هناك شعور مخفي قبل الحرب.. لا علاقة له بالحرب.. بأننا نعيش معا بحكم الواقع.. بحكم الحدود السياسية.. بحكم الظروف السياسية.. ولكن عندما تتبدل كل هذه الظروف.. فلا بد لكل منا أن يذهب في حال سبيله.. ركزوا على الموضوع العرقي ونزعوا عن القومية أهم الجوانب الحضارية الموجودة فيها المتعلقة بالجانب الثقافي وباللغة وبالجغرافيا والتاريخ والأشياء المختلفة.”
هذا أيضاً اقتراب من مفهوم القومية الاجتماعية، التي تقول أن الاشتراك في الحياة الواحدة في بيئة جغرافية معينة هو ما يحدد المجتمع والهوية القومية في المجتمع بغض النظر عن الأصول العرقية والسلالية والدينية. وهذا التفاعل بين كافة العناصر والفئات هو ما ينتج مزيجاً متجانساً يتميز بخصائص تشكل اساسات الهوية القومية، وتتخطى الأصل السلالي أو العرقي أو الديني أو المذهبي لأي من هذه الجماعات، الى الهوية القومية الاجتماعية الجامعة. لكن هذا التوصيف يجب أن يحصل في مجتمع واحد ووطن واحد وأمة واحدة.
وهذا التوصيف في ربط القومية العربية بالعرق والدين والمذهب أحياناً هو في أساس المشكلات التي نشأت في القرن الماضي مع جماعات عرقية مثل الأكراد، أو دينية مذهبية مثل الأقليات المسيحية أو شيعة العراق أو سنة الشام. والحل الذي يحرر مفهوم القومية من العرق والدين هو القومية الاجتماعية، على أن تحدد الهوية القومية بشكل حقيقي وواقعي وصحيح، مبني على وقائع التاريخ والجغرافيا والمصالح، لا على الرومانسية العاطفية والحنين الى المجد الغابر والسلف الصالح.
وتكمن أهمية ترسيخ المفهوم القومية الاجتماعية لا القومية الدينية او العرقية، في هذه المرحلة، لأنه كما ذكر الرئيس: “بعد أن سقطت ورقة التطرف في هذه المنطقة لأنها افتضحت في الخارج.. سوف يركزون، وكما ترون بدؤوا بالتركيز على موضوع القوميات والأعراق وستكون هي الورقة التي سنفاوض عليها في سورية وفي العالم العربي قريباً.”
إذاً، القومية الاجتماعية، لا القومية العرقية أو الدينية هي التي تحصن المجتمع في وجه حملات التفتيت العرقي والديني والمذهبي. يبقى السؤال، هل هذه القومية الاجتماعية، التي يوصفها الرئيس بشكل دقيق، هي قومية تشمل العالم العربي كله أم قومية تنتمي لكل من مجتمعات العالم العربي وبيئاته الطبيعية الأربعة؟
في تحديد المجتمع والأمة والوطن
نرى من خلال ادبيات القوميين العرب، ومن خلال كلمة الرئيس، أنهم يحددون القومية العربية والأمة العربية، لكنهم يتأرجحون في تحديد المجتمع والوطن. فتارة نراهم يتحدثون عن المجتمع العربي الواحد، وتارة عن المجتمعات العربية المتعددة. وتارة يتكلمون عن الوطن العربي وأخرى عن العالم العربي المشكل من عدة اوطان واقطار.
لا بد من تحديد المصطلحات وتوحيدها من أجل بناء الوعي القومي الصحيح ووضوح الصورة والأهداف وخطط العمل. القومية الاجتماعية حددت أن الأمة هي مجتمع واحد لا عدة مجتمعات، ينشأ نتيجة الاشتراك في دورة الحياة في بيئة جغرافية واحدة ووطن واحد لا عدة أوطان. كما أن التفاعل مع بيئة محددة ومع ما تقدمه من ممكنات على مدى حقبات تاريخية طويلة، تسهم في صياغة الشخصية القومية. لذلك فإن تفاعل السوريين فيما بينهم ضمن جغرافية سورية الطبيعية يعطيهم خصائص كانت لتكون مختلفة لو أن بيئتهم الطبيعية كانت صحاري الجزيرة العربية أو محيط وادي النيل.
إن الجغرافيا والتاريخ وعلم الاجتماع تحدد أن العالم العربي يتألف من أربعة بيئات طبيعية أو أقاليم جغرافية لكل منها تاريخ قديم، وحدتها لفترات معينة الدولة الإسلامية، وتبنى السواد الأعظم من الشعب فيها اللغة العربية والدين المحمدي بمختلف مذاهبه، مما سهل التفاعل والتعاون فيما بينها، مع احتفاظ كل منها بموروثاته الحضارية القديمة، فإننا نتحدث بالتالي عن أربعة أمم وأربعة مجتمعات وأربعة اوطان، من ضمن بوتقة العالم العربي والإطار العروبي الحضاري الثقافي العام المشترك.
هذا التحديد القومي الاجتماعي الواضح للأمة والمجتمع والوطن يجعل العمل على الوحدة والنهوض مبنياً على أسس واقعية ثابتة من أدنى الى أعلى، عوض اسقاط الانتماء القومي والهوية العربية الفضفاضة على كل هذه المجتمعات دفعة واحدة، مما قد يجعل العمل الوحدوي اسير العواطف الرومنسية العابر للقارات، كما حصل في وحدات سابقة قفزت فوق الواقع الاجتماعي والجغرافي ففشلت. من هنا قالت القومية الاجتماعية بالعروبة الواقعية، التي هي عروبة الأمم العربية الأربعة التي يجب أن توحد نفسها أولاً وتطبق القومية الاجتماعية وتنهض، ثم تتعاون مع بعضها في إطار جبهة عربية موحدة.
حصر الخيارات في ثنائية القطرية والقومية العربية
لذلك لا يجوز حصر الخيارات للشعوب العربية في ثنائية مغلقة: إما القومية العربية وعروبة الامة العربية الواحدة من المحيط الى الخليج، والتي استهلكت في كافة أنواع الأنظمة العربية على مدى ثلاثة ارباع القرن ولم تورثنا سوى الخيبات والفشل، وأدت الى الكوارث التي نراها اليوم، وإما التسليم بكيانات التجزئة أو ما دونها من طروحات تقسيمية، كالفدراليات العرقية أو المذهبية التي ترتكز الى قوميات عرقية ودينية، تنسج على منوال القومية اليهودية أو الدولة الإسلامية في العراق والشام.
في هذا المجال يقول الرئيس: “كل العمل السياسي بالمؤتمرات والحكومة الانتقالية والفيدرالية، وبكل ما تسمعونه من مصطلحات يعبر عنه بشيء وحيد كان مطلوباً وهو ضرب هذه الفكرة.. طبعاً هم يستهدفون المؤسسات ويستهدفون أيضاً المجتمع، لأننا نتحدث عن عقيدة واحدة..” ويتابع: “كل الحرب كانت باتجاه نزع فكرة القومية ابتداء بالدستور، أن يكون اسمها الجمهورية السورية، أن يكون جيشاً سورياً، أن يسحب من كل المؤسسات وفي كل المراحل أي شيء عقائدي مهما يكن وفي أي مكان.. فإذاً عبر استهداف الجيش استهدفوا الدولة، وعبر استهداف الجيش والدولة استهدفوا المجتمع… لذلك مقابل هذا التركيز كنا في سورية متمسكين بالهوية تمسكاً كاملاً ولم يكن هذا الموضوع خاضعاً للنقاش ولا للتنازل من قريب ولا من بعيد.. لأنني كما قلت في المقدمة الهوية هي أساس وجود أي مجتمع من المجتمعات، تمسكنا بها رسمياً وشعبياً، تمسكنا بها سياسياً، ثقافياً، اجتماعياً.. وبالتالي في المحصلة وطنياً… لا يمكن أن نفكر ولو لثانية واحدة بأن نقدم تنازلاً يتعلق بموضوع العقيدة والانتماء القومي لسورية.”
طبعاً القومية الاجتماعية التي يتبناها الرئيس هي كفيلة بهذه المواجهة، لأنها تحفظ وحدة المجتمع. والتمسك الذي يذكره الرئيس هو ما حصل في سورية في نطاق الكيان، وليس على مستوى العالم العربي. وهو ما يجب أن يتسع ليشمل كيانات سورية الطبيعية، وهو ما يجب أن تعتمده دول كيانات الأقاليم العربية الأخرى كل في نطاقه، مع الحفاظ على رابطة العروبة الواقعية.
ما هو مستهدف هو عقيدة وحدة المجتمع، سواء داخل الكيان الشامي أو على مدى سورية الطبيعية وربما بعض البيئات العربية الأخرى. وليس بالضرورة العروبة بإطارها الفضفاض. إذ أننا نرى في أماكن أخرى من العالم العربي أن مفهوم العروبة يستخدم من قبل الغرب لتشكيل عصبية موالية له في مواجهة إيران والمد الفارسي. ما هو مستهدف هو القومية الاجتماعية، على حساب القوميات العرقية أو الدينية أو المذهبية، والتي لا يضيرها إن كانت عربية أم لا. وربط القومية العربية بالإسلام يضعف قدرتها أن تكون قومية اجتماعية جامعة.
في المقابل، فإن القومية الاجتماعية لا يجب أن تتحول الى انعزالية شوفينية لا على مستوى الكيان الشامي ولا حتى على مستوى سورية الطبيعية، والصفة العربية متلازمة معها تفرضها اللغة والتاريخ المشترك مع الأمم العربية الأخرى.
ويتابع الرئيس: “في إطار ردود الأفعال التي تحصل الآن، هناك من يطرح فكرة العودة للانتماء القطري.. نحن في سورية ننتمي لسورية وانتهى الموضوع.. هذه هي حدودنا السياسية.. حسناً.. ماذا يعني أن أنتمي للقطر؟ يعني أولاً أننا كنا مخطئين ونحن نشتم الاستعمار على مدى مئة عام لأنه قسّم المنطقة.. هذا يعني أن الاستعمار قام بعمل صحيح.. يعني أن انتماءنا النهائي هو هذه الحدود السياسية.. يعني أن نجتمع اليوم … نحن في سورية وربما في لبنان ودول بلاد الشام ونقدم اعتذاراً لسايكس بيكو لأن ما قاموا به صحيح.. هناك منطق غير سليم.. عفوي سطحي.. ارتجالي في طرح هذا الموضوع… وهنا نرى كيف أن فكرة القومية هي فكرة رابطة لكل عناصر المجتمع، وخاصة عندما نريد أن نسير باتجاه المستقبل..”
إن سايكس بيكو قسمت سورية الطبيعية. ومن الطبيعي أن نرفض هذا التقسيم، وبالتالي أن نرفض قوميات كيانية ترفع شعارات انعزالية مثل لبنان اولاً والأردن أولاً والقرار الفلسطيني المستقل، والعراق أوالشام أولاً، بحيث ينعزل كل كيان في نطاقه الضيق، ويتعامل مع العالم كأنه أمة مستقلة لا علاقة لها بالمحيط الطبيعي. والرد هو باستعادة وحدة سورية الطبيعية وترسيخ الانتماء القومي الاجتماعي فيها، لا في الإبقاء على القومية العربية التي كانت (ولو بتطبيقاتها القديمة) جزءاً من مسببات ما وصلنا اليه من وهن. لا شك أن محاولة الرئيس الأسد طرح نموذجاً حديثاً للقومية العربية يتبنى فيه بعض جوانب القومية الاجتماعية هو تطوير كبير قد يتفادى بعض إخفاقات الماضي، طالما هو يطبقه اليوم في الكيان الشامي. لكن تبقى مسائل عدم الوضوح في تحديد المجتمع والجغرافيا والأمة والربط بالإسلام مع ما في ذلك من انتقائية في اجتزاء التاريخ والتراث الحضاري، عوامل ضبابية بحاجة الى حوارات وابحاث إضافية معمقة.
يتابع الرئيس حول ما يسميه الموضوع القطري: “بكلمة مختصرة أن نقبل بالأمر الواقع جغرافياً.. أننا قسمنا وقبلنا بأوطاننا بحدودها الحالية لا يعني أن نقبل بتقسيم الهوية.. الجغرافيا تقسم.. الاقتصاد يقسم.. كل شيء يقسم، أما الهوية فهي دائماً ثابتة أو أنها تزول وتنتهي.. ثابتة لا يعني أنها جامدة، هي تتطور بتطور المجتمعات.. وكلما انضمت إليها مجموعات وأطياف أخرى ازدادت غنى، فإذاً هي تتطور دائماً وتنمو وتكبر.. وبخلاف ذلك فإنها في حال اندثار وضمور وزوال.”
في هذا التصريح جانب مهم جداً يعود الى علم الجيوبوليتيكا، الذي تعتمده الأمم المقسمة قسراً للحفاظ على وحدة الهوية والانتماء برغم الواقع المقسم، تحضيراً لمرحلة لاحقة تستعاد فيها وحدة الدورة الاجتماعية الاقتصادية على كامل مساحة الجغرافيا الواحدة. وهذا ينطبق على العالم العربي، سواء نظرنا اليه كأمة واحدة أم كأمم أربعة متعاونة ومتكاملة فيما بينها. لكن الأهمية المباشرة لهذا الطرح تكمن في تركيزها على المناطق المهددة بالمزيد من التقسيم والتفتيت، وتحديداً سورية الطبيعية، حيث الانتماء والهوية هي سورية مشرقية بالمعنى الواسع، دون الغاء الصفة العربية عنها. أما أن إضافة عوامل أخرى الى الهوية يزيدها غنى، فهذا يجب أن يخضع لمنطق الجغرافيا والتاريخ والمصالح والتفاعل في دورة حياة موحدة أيضاً، وليس مسألة ثقافية فوقية فقط، والا فلنضم الى هويتنا تركيا وإيران ودول أخرى نشترك معها بالدين والتاريخ.
رد الفعل على السياسات العربية وتأثيره على العروبة
يقول الرئيس: “هناك عامل آخر أثر على العمل القومي وهو سياسات بعض الحكومات العربية التي عملت ضد مصالح الشعب العربي عبر خدمة مشاريع خارجية وتسهيل العدوان على دول عربية أخرى الأمر الذي خلق رد فعل سلبياً لدى الكثيرين تجاه القومية والعروبة. وهنا يجب عدم الخلط بين الانتماء للهوية والانتماء لنظام سياسي معين لا نرضى عن سياساته… ان السبب الرئيسي لما نعانيه اليوم من حالات تقسيمية ابتداء بتقسيم العقول وانتهاء بتقسيم الأوطان هو غياب الشعور القومي والانتماء الجامع.” ويتابع: “أن يتآمروا علينا لا يعني أن نهرب من الفكرة.. من الانتماء الحقيقي… البعض كرد فعل يريد أن يخرج من فكرة القومية لأنه يعتقد أنها فكرة سيئة أو نتائجها سيئة.. يجب أن نوضح لهؤلاء أن غياب الانتماء لا مصلحة لأحد فيه، لأن ما نعاني منه اليوم.. من حالات تقسيمية طائفية أو عرقية.. أحد أهم أسبابها، وربما يكون السبب الأساسي والأكبر والوحيد، هو غياب الشعور القومي.. لماذا؟ لأن الإنسان بطبعه، بغريزته يبحث عن انتماء.. ولكن عندما يغيب الانتماء الجامع فلا بد له من انتماءات أخرى يبحث عنها.. ستكون وهنا تظهر الانتماءات الضيقة وبالتالي التقسيمية التي تبدأ بتقسيم العقول وتنتهي بتقسيم الجغرافيا والأوطان.”
صحيح أن هناك ردة في بلادنا وبلدان عربية أخرى ضد العروبة بمفهومها القديم الرومنسي الفضفاض. وقد يكون البديل لدى البعض هو الانتماءات الضيقة من طائفية أو عرقية أو حتى كيانية. لكن هذه ليست الخيارات الوحيدة. فنحن نطرح العروبة الواقعية كبديل عن العروبة الوهمية المتهالكة. والعروبة الواقعية كما ذكرنا تقوم على ترسيخ الانتماء القومي على قواعد الجغرافيا والتاريخ والمصالح ووحدة الحياة والارث الحضاري لكل من بيئات العالم العربي، لا الرجوع الى كيانات التجزئة أو الى ما دونها لتفتيت المفتت. كما أن الكثير من الحركات المتحالفة مع الغرب ارتكزت الى مفهوم طائفي ولكن أيضاً تحدثت عن أكثرية سنية عربية، فكان طرحها قريباً جداً من القومية العربية الدينية وحتى العرقية. وهذه بطبيعتها حركات تقسيمية مع أنها تستظل العروبة الممزوجة مع الإسلام -السني… ومواجهتها لا تتم بالعروبة الممزوجة مع الإسلام، بل بالانتماء القومي الاجتماعي في سورية الطبيعية وفي وادي النيل والمغرب العربي والخليج، من ضمن بوتقة ثقافية عربية عامة.
ربط العروبة بالتخلف
يقول الرئيس: “ان أعداء العروبة والفكر القومي حاولوا إلصاق تهمة التخلف بهما والادعاء بأن زمنهما قد ولى في عصر تسوده العولمة وذلك بهدف جعلنا مجرد أدوات لخدمة مصالح مؤسسات مالية كبرى تقودها الولايات المتحدة.. ولا بد لمواجهة ذلك من التمسك بالهوية ودعم الانفتاح والأفكار التطويرية في إطار برنامج واضح يتوافق مع مصالح الشعوب ويراعي تطور العصر.”
إن دعاة العولمة قبل عصر الشعبوية الحالي الذي اتى بترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية وأدى الى بداية انفصال بريطانيا عن أوروبا، كانوا قد سوقوا لأفول عصر القوميات وموت الفكر القومي. وهذا لم يكن ليستهدف العروبة حصراً، بل كل فكر قومي أينما وجد. لكن أزمات العولمة والردة الشعبوية القومية في الدول التي اطلقتها أعادت الفكر القومي الى الواجهة. وبرغم أن نظرية صراع الحضارات التي تبنتها العولمة قد الصقت صفة التخلف بالحضارة الإسلامية بشكل عام، فإن سلوك الأنظمة العربية على مدى ثلاثة ارباع القرن، سواء المواجهة منها أو المطبعة، الغنية منها أو الفقيرة، لم تستطع تقديم نموذج عصري للدولة أو للتنمية، ولا دخلت عصر العلم والصناعة في القرن الماضي أو عصر المعرفة في هذا القرن، وصرفت الأموال الطائلة على الحكام والفساد، وأبقت أنظمتها التعليمية والبحثية وبنيتها التحتية أو الإدارية واقتصاداتها الإنتاجية او الخدماتية في حالات يرثى لها من التخلف، مع بعض الاستثناءات. ويشهد للرئيس الأسد أنه حاول منذ توليه السلطة لتطوير البلاد الى حد معقول دون رهنها للمنظمات الدولية، في ظل المواجهة وامتصاص قطاعات الدفاع لأكثر من نصف الموازنات، وفي ظل ما ورثه من ترهل في الإدارة وما ترافق مع محاولات فتح الاقتصاد من فساد. وها هو بعد 7 سنوات من الحرب، ما يزال يدعو ويعمل على التطوير ومواكبة العصر، برغم ما خلفته الحرب من تدخلات خارجية: “لا بد أن نكون السباقين لدعم وتطبيق الأفكار التطويرية، وأن يكون لدينا برنامج متوافق مع هذا العصر، ومتوافق مع مصالح الشعوب.”
أهمية التمسك باللغة العربية
لا شك أن التمسك باللغة العربية ودعمها في هذا العصر المعولم المطبوع باللغة الإنكليزية وبعض اللغات الأجنبية الصاعدة، هو عنصر أساسي في حفظ هويتنا وتراثنا، على امتداد العالم العربي. وبرغم غنى التراث السوري القديم باللغات التاريخية، لكن اللغة العربية هي الحامل الثقافي الحالي لإسهاماتنا الفكرية والحضارية وحفظ الكثير من خصائص مجتمعنا على مدى الف واربعمئة عام مضت. وفي سورية الطبيعية، برغم وجود جماعات لا زالت محافظة على لغاتها القديمة، الا أن اللغة العربية تشكل العنصر الجامع الموحد والحامي للوحدة القومية في هذا الزمن، مع احترام التنوع والخصوصيات. وهذا ينطبق على كافة البيئات العربية الأخرى. ويؤكد الرئيس في هذا المضمار على “ان من أهم الأمور التي تقتضيها مواجهة الغزو الثقافي والفكري هو التمسك باللغة العربية التي تشكل حاملاً للثقافة والعروبة باعتبارها حالة حضارية مؤكدا أن فقدان اللغة هو فقدان للارتباط وغربة عن الثقافة التي ينتمي إليها الإنسان.”
من تعبئة الجماهير الى وعي الشعب
يركز الرئيس في نقطته الأخيرة على ضرورة أن “ننقل هذا الحوار من إطار حوار النخب والحوار السياسي إلى الحوار مع الشرائح الأوسع وخاصة الشباب.. وبشكل أهم في الجامعات.. علينا أن نحاورهم حول كل المفاهيم، المفاهيم البالية منها.. القديم الذي لم يعد صالحاً لهذا العصر، والمفاهيم الحديثة ولكن المدسوسة.. نحن اليوم نعيش في عصر الانترنت وكل مواطن تقريباً يخضع للقصف الفكري والثقافي بشكل مستمر وعلى مدار الساعة، لا توجد ضوابط على هذا النوع من الإعلام.. بالإضافة للفضائيات.. ولا يمكن أن يوجد في المستقبل أي ضابط من الضوابط.. هناك ضابط وحيد هو رجاحة العقل.. ولا يوجد شيء أهم من الحوار من أجل تحصين العقل وتحصين المجتمعات.. ”
أن مجرد نقل التركيز من تعبئة الجماهير بشكل غرائزي وعاطفي من قبل إعلام موجه مغلق كما كان يمارس الكثيرون في القرن الماضي، ومنهم القوميون العرب، الى فكرة تحصين الشباب برجاحة العقل ليستطيع أن يفكر ويحلل ويقرر الجيد من السيء في عصر الانترنت والاعلام المفتوح، هو بحد ذاته نقلة نوعية بآليات العمل، تعيد الأهمية للوعي الشعبي وبناء الإنسان على قواعد العقل والتفكير النقدي حتى لا يبقى تابعاً، تحركه الغرائز والعواطف. وهذا يستتبع أساليب جديدة في التربية والتدريب والتثقيف أقرب الى نمط العمل القومي الاجتماعي الذي يركز على تثقيف الافراد واقتناعهم العقلي واعتبار أن العقل هو الشرع الأعلى. ولا بد من التعليق هنا أن ليس كل مفهوم حديث هو مدسوس، ولا كل ما يأتي من الخارج هو شر. من هنا أهمية العقل والعلم والتفكير النقدي لتقرير ما هو مفيد وصالح لنا وما هو سيء ومدسوس. ومن أولى المهام المطلوبة لذلك هو تحديد المصطلحات بشكل علمي وموضوعي.
تحديد المصطلحات: مثال التعايش ووحدة الحياة
يجب تنظيم حوارات مفتوحة لتوحيد المصطلحات سواء العقائدية منها أم الإعلامية أم تلك التي يستخدمها المواطنون في حواراتهم اليومية. وقد ذكر الرئيس أن “الحوار حول المصطلحات موضوع معقد.. وهو بحاجة للقيام بعمل فكري على المستوى القومي لأن اختراق مجتمعاتنا بدأ بمصطلحات.. ونحن مع كل أسف دائماً نأخذ المصطلح ونردده بشكل ببغائي من دون أن نعرف ما هو مضمونه.. وبعد فترة يتحول إلى جزء من اللاوعي بالنسبة لنا.. ويصبح جزءاً من شخصيتنا.. ونصبح منفذين لأجندات خارجية.. ثقافياً وسياسياً من دون أن ندري. أعطيكم مثالاً بسيطاً جداً.. كلمة التعايش.. في سورية كان الكثيرون يتباهون بكلمة «تعايش».. وكلما أتى وفد أجنبي يمتدحون التعايش الموجود بين مكونات المجتمع السوري.. وربما تكون هذه الكلمة مطروحة في دول عربية أخرى.. أنا كنت أرفض هذه الكلمة والآن نرفضها بشكل رسمي.. لأن التعايش هو علاقة بين مكونات متنافرة.. أي إنني أرفضك ولكن أقبل بالتعامل معك.. ولكن عندما تأتي الظروف لا أريدك أن تكون موجوداً.. أنت منفر لي وأنا منفر لك… وعندما نقبل بهذا المصطلح.. ومع كل أسف لا نحلله.. فنحن نقبل بكوننا مجموعات متناقضة متنافرة ولكننا نعيش مع بعضنا بعضاً.”
وفي هذا المجال، كان رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي ووزير المصالحة الوطنية د. علي حيدر في مداخلة له هذا الأسبوع قد لفت “إلى أهمية التفريق بين مصطلح التعايش بين السوريين، والذي يعني حالة مؤقتة بين متصارعين، وبين الحياة الواحدة التي تجمع الأفراد، والتفريق بين مصطلحي الفسيفساء السورية والنسيج السوري، فالمجتمع السوري نسيج تتداخل عناصره وتتوحد وليس فسيفساء تتقارب قطعها ولا تتحد.”
ختاماً، لا بد من التأكيد مجدداً ان النقاش الفكري الهادئ وتنوع المقاربات وحتى اختلافها يجب أن يكون مصدر غنى لتعزيز المواجهة في المرحلة القادمة، وتحصين المجتمع في وجه محاولات التفتيت العرقي والمذهبي، سواء داخل الشام، أم داخل الكيانات الأخرى في سورية الطبيعية والعالم العربي. والتفاعل بين دعاة الفكر السوري القومي الاجتماعي ودعاة القومية العربية والأفكار الأخرى يغني العمل العام، ويسهم في تحصين المجتمع وتصويب السياسيات التي ستحكم إعادة بناء النظام السياسي القادم في الشام بعد انتهاء الحرب. ونحن نعتقد أن العمل القومي الاجتماعي يجب أن يركز على بناء مشروع الوحدة والنهضة بشكل تدرجي من الداخل الى الخارج، فلا ندعو الى القفز من واقع التجزئة الى الوحدة العربية الشاملة لمرة واحدة وبشكل عشوائي وعاطفي وجماهيري، وهذا ما اسماه سعادة العروبة الوهمية. بل أن يكون العمل من أجل عروبة واقعية ترتكز الى حقائق التاريخ والجغرافيا والمصالح ووحدة الدورة الحياتية. من هنا قال سعادة يوماً: ” أننا لن نتنازل عن مركزنا في العالم العربي ولا عن رسالتنا إلى العالم العربي. لكننا نريد قبل كل شئ أن نكون أقوياء في أنفسنا لنتمكن من تأدية رسالتنا. يجب على سوريا أن تكون قوية بنهضتها القومية الاجتماعية لتستطيع القيام بمهمتها الكبرى”… و”متى أصبحت المسألة مسألة مكانة العالم العربي كله تجاه غيره من العوالم، فنحن هم العرب قبل غيرنا. نحن جبهة العالم العربي وصدره وسيفه وترسه، ونحن حماة الضاد ومصدر الإشعاع الفكري في العالم العربي كله “.