سورية والقومية العربية مجدداً

سورية والقومية العربية مجدداً

  1. خطابات رئيس الجمهورية ووزير الأوقاف في الشام
  2. قراءة تاريخية لنشوء فكرة العروبة
  3. إشكالية العلاقة بين العروبة والاسلام

1- خطابات رئيس الجمهورية ووزير الأوقاف في الشام

سمعنا مؤخرًا خطابين في الشام، الأول لوزير الأوقاف محمد عبد الستار السيد، (في 04/12/2020)، والثاني لرئيس الجمهورية الدكتور بشار الأسد (في 07/12/2020)، تحدثا فيهما عن العروبة والإسلام.

طروحات وزير الأوقاف

استفز كلام الوزير كثيرًا من السوريين وأهل الفكر، بعد أن هزئ بمفهوم الأمة السورية، واعتبر أن هناك “عقيدتين أساسيتين في المنطقة هما الإسلام والعروبة، وكل ما عداهما هو متفرق وضئيل“. وأنه “لولا المؤسسة الدينية لكان التطرف والفكر التكفيري، قد انتشر في مناطق كثيرة من الجغرافيا السورية“، كما حذر من خطر “فصل الدين عن الدولة ” الذي يخدم جماعات “الإخوان المسلمين والجماعات المتطرفة“. وهو رأى أن “فصل الدين عن الدولة يؤدي حُكماً لفصل المجتمع عن الدولة، وهذا لا يحصّن المجتمع ولا يخدم مصلحته“.

وقال السيد، “شو هي الأمة السورية؟ هل سمع أحدكم بالأمة السورية؟ نحن نعرف الأمة العربية، ولا يمكن الفصل بين العروبة والإسلام أبدًا“. وأضاف أن “الغزو الثقافي الذي نراه في بلادنا الآن يتم على الإسلام بكل شيء، إضافة إلى اللغة العربية والعروبة وإلى الأصل“. واستهزأ من الدعوات القومية المحلية بالقول: “إنو شي بيقلولك نحنا قبرص وسوريا ولبنان وما بعرف شو وبيدخلوا عباس بدرباس“.

بعد خطابه ذاك، وخلال جلسة حوارية له مع مجموعة من المحللين والأكاديميين، في مقر “دار البعث للصحافة والنشر” بدمشق، (بتاريخ 17/12/2020) رأى وزير الأوقاف أن “المؤسسة الدينية في سورية تساهم في حماية البلاد من فكر الإخوان المسلمين، الذين يريدون دينًا بلا مؤسسة، حتى يكونوا هم المسيطرون على الفكر الديني في المجتمع، وبذلك ينقضّون على الدولة الوطنية العلمانية، لتحقيق حلمهم بإقامة دولة دينية إخوانية“. وأضاف أن “أحد مقتضيات فصل الدين عن الدولة، هو إبعاد الدولة عن إدارة وتنظيم العمل الديني، وبالتالي تعم الفوضى في العمل الديني، وهذا ما يريده الإخوان والجماعات المتطرفة، ليسيطروا على العمل الديني، وبعد ذلك يسيطرون على المجتمع، وهذا ما فعلوه تمامًا في تركيا، فاستطاعوا، من خلال ذلك، ضرب العلمانية والسيطرة على الدولة“.

وبيّن الوزير السيد أن كلام الرئيس بشار الأسد، الذي وصف فيه المؤسسة الدينية بأنها رديفة للجيش العربي السوري، ينبع من حقيقة عمل هذه المؤسسة، وتحديدًا لجهة تحصين البلاد، ومنع الفتنة ومحاربتها للتطرف، وأضاف السيد أنه، كما حارب الجيش العربي السوري الإرهاب وحمى الوطن، حاربت المؤسسة الدينية التطرف والفتنة، وساهمت في تحصين الإسلام في سورية عن الفكر الظلامي.

وقال أيضًا أن: “الجيش العربي السوري كان يحارب تنظيمات ترفع رايات وشعارات متطرفة وتكفيرية، تُنسَب للإسلام وهو بريء منها، وكان من الضروري أن يكون هناك رديفًا عقائديًا للجيش هو المؤسسة الدينية، هذا الرديف ينقُض ويعرّي الفكر الديني المتطرف“، وأضاف “إن المؤسسة الدينية كانت الحامل العقائدي الفكري للجيش، في مواجهة هؤلاء المتطرفين ومنابعهم التكفيرية“!

ونوّه وزير الأوقاف بالخطر الذي يهدد المجتمعات، النابع من مفهوم ما سماها الرئيس الأسد بـ “الليبرالية الحديثة”، واتهمها أنها تسوِّق للشذوذ والانحلال الأخلاقي، والحرية المنفلتة عن الضوابط وانفصال الفرد عن أسرته ومجتمعه وبيئته. واعتبر السيد أن الليبرالية الحديثة هي خطر على المجتمعات الإسلامية والمسيحية معًا.

وحول ربط التربية الدينية بالأخلاق، رأى الوزير السيد أنه عندما تحدث الرئيس عن هذا الموضوع، كان الهدف منه واضحًا، وهو أن يحب أبناء المجتمع بعضهم بعضًا، وأن تعود للأسرة عراقتها وتقاليدها المسيحية والإسلامية، وركز على الأخلاق وطلب من علماء وعالِمات الإسلام، أن يربطوا كل أمر بمقصده، فتكون النتيجة هي الأخلاق، وهذا هو جوهر الدين.

يمكن بالتالي تلخيص مواقف وزير الأوقاف بما يلي:

  1. الاستهزاء بمفهوم الأمة السورية والتأكيد على مفهوم الأمة العربية.

  2. هناك عقيدتان أساسيتان في المنطقة هما الإسلام والعروبة، وكل ما عداهما هو متفرق وضئيل. وهذا تناقض مع البعث الذي يقول بعقيدة واحدة هي القومية العربية المرتبطة بالإسلام، واستهزاء بكل العقائد الأخرى، سواء عقائد قومية أخرى، كالقومية السورية، أو عقائد دينية غير الإسلام، الذي هو بالنسبة له الإسلام السني كونه يمثله. وفي هذا شطب لتاريخ سورية، الذي يمتد لآلاف السنين قبل ظهور الإسلام، وإسهاماته الحضارية التاريخية.

  3. الغزو الثقافي الذي نراه في بلادنا الآن، يتم على الإسلام بكل شيء، إضافة إلى اللغة العربية والعروبة وإلى الأصل. وهو لا يحدد ما هي بلادنا، هل هي سورية أم “الأمة العربية” أو “الأمة الإسلامية”، ولم يوضح أي إسلام يعني. كما لم يحدد ما هي العروبة وأي أصل يتكلم عنه. هل هو الأصل العرقي العربي، أم الأصل السوري المتنوع الذي يعني المزيج العرقي والسلالي والحضاري، الذي تشكل نتيجة تفاعل الجماعات والإثنيات والطوائف، في دورة حياة واحدة شهدتها سورية الطبيعية على مدى آلاف السنين. وهو في كلامه في دار البعث، طالب باستعادة الأخلاق، من خلال أن تعود للأسرة عراقتها وتقاليدها المسيحية والإسلامية، فيما قال في خطاب طرطوس أن كل ما عدا الإسلام والعروبة هو متفرق وضئيل! وكأنه بهذا الرد أراد تخفيف حدة قوله الأول.

  4. يستنجد بحديث الرئيس حول الليبرالية الحديثة، ويقول أنها “تسوِّق للشذوذ والانحلال الأخلاقي والحرية المنفلتة عن الضوابط وانفصال الفرد عن أسرته ومجتمعه وبيئته”، واعتبرها خطرًا على المجتمعات الإسلامية والمسيحية معًا. فهل يعني أن في سورية عدة مجتمعات، منها الإسلامي ومنها المسيحي، كما تكرر في السنوات الأخيرة في خطاب البعث، وحتى خطاب الرئيس، أن في سورية أكثر من قومية، منها القومية العربية ومنها القومية الكردية وربما الأشورية السريانية أي المسيحية؟ وهل الأكراد المسلمون، هم جزء من المجتمع الإسلامي لكنهم ليسوا جزءًا من القومية العربية؟

  5. يعطي الوزير السيد للمؤسسة الدينية دورًا نضاليًا مقاومًا، يوازي دور الجيش في محاربة التطرف والإرهاب، متسلحًا بما قاله الأسد في هذا المجال. ويعطيها بالتالي موقعًا في مواجهة المتطرفين ومنابعهم التكفيرية من جهة، ومواجهة الهجمة الثقافية التي تأتي بها الليبرالية الحديثة من جهة أخرى. وأنها كانت الحامل العقائدي الفكري للجيش، الذي لطالما تغنى البعث أنه جيش عقائدي يدين بعقيدة البعث. فهل أصبحت المؤسسة الدينية بديلًا عن البعث في هذا المنحى؟

  6. فصل الدين عن الدولة يخدم جماعات “الإخوان المسلمين والجماعات المتطرفة”. “ويؤدي حُكمًا لفصل المجتمع عن الدولة، وهذا لا يحصّن المجتمع ولا يخدم مصلحته”. وهذا استنتاج أقل ما يقال فيه أنه يساوي الدولة بما تمثل من مؤسسات سياسية حقوقية، والمجتمع كونه واقعًا حياتيًا. مع أنه لا يحدد إن كان يعني المجتمع الإسلامي، أو المجتمعين الإسلامي والمسيحي، كما يسميهما في مكان آخر، أم المجتمع السوري بكل فئاته، أم المجتمع العربي في “الأمة العربية”، أم المجتمع الإسلامي في “الأمة الإسلامية”.

  7. فصل الدين عن الدولة يسهم في ضرب الدولة الوطنية العلمانية، ويساعد المتطرفين والإخوان المسلمين على تحقيق حلمهم بإقامة دولة دينية إخوانية. فالمؤسسة الدينية إذًا هي ضد مبدأ فصل الدين عن الدولة، لكنها مع الدولة الوطنية العلمانية، من دون تحديد كيف يمكن أن تكون الدولة غير مفصولة عن الدين، وفي الوقت نفسه هي دولة وطنية علمانية! وأن الإخوان المسلمين يريدون فصل الدين عن الدولة، كي يقيموا دولتهم الدينية الإخوانية!

ما هو مشترك في معظم هذه النقاط، هو الخلط العشوائي بين المفاهيم والتناقض في الطروحات، وغياب التحديد والوضوح فيما يريد هذا الوزير.


طروحات رئيس الجمهورية

بعد أيام من خطاب وزير الأوقاف في طرطوس، وقبل ردوده في دار البعث، حيث أراد أن يكحلها فعماها، القى رئيس الجمهورية كلمة مطولة، في الاجتماع الدوري الموسع، الذي عقدته وزارة الأوقاف للعلماء والعالمات، في جامع العثمان بدمشق. في حين كان من الأفضل أن يتحدث وزير الأوقاف في الجامع عن شؤون الدين والأوقاف، ويتحدث الرئيس في دار البعث عن الشؤون القومية والسياسية ودور الدولة، لا العكس.

حاول الرئيس شرح وتفنيد نقاط عديدة، من موقعه كقومي عربي معاصر. كما تصدى لشرح مؤيد لوزير أوقافه، وترسيخ دور المؤسسة الدينية في معركة الدفاع عن سورية. وأعطى هذه المعركة أبعادًا سياسية وفكرية أوسع من خطاب الوزير، وعلى وجه الحصوص، بوجه الإخوان المتطرفين المدعومين من تركيا، كما بوجه العروبيين الذين يتهمون القيادة السورية، بأنها أقليّة طائفية، رهنت سورية إلى قوى غير عربية من إيران إلى روسية، أو حتى بوجه الهجمة الثقافية التي تسوقها الليبرالية الحديثة ضد العالم الإسلامي!

كنا قد كتبنا مقالًا نقديًا للطروحات العروبية المستحدثة، التي طرحها الرئيس في الملتقى العربي لمواجهة الحلف الأميركي الصهيوني الرجعي العربي، ودعم مقاومة الشعب الفلسطيني في دمشق في 16 تشرين الثاني 2016، فنّدنا فيها المحاور التالية: حول أهمية القومية والانتماء، العلاقة بين العروبة والإسلام، في تعريف العروبة، في مفهوم القومية، في تحديد المجتمع والأمة والوطن، حصر الخيارات في ثنائية القطرية والقومية العربية، رد الفعل على السياسات العربية، ربط العروبة بالتخلف، من تعبئة الجماهير إلى وعي الشعب، وأهمية التمسك باللغة العربية.

مع ذلك، لا بد من مراجعة الطروحات الأخيرة للرئيس، وتفنيدها بالتفصيل لتبيان نقاط الضعف والقوة فيها، وطرح بدائلنا العقائدية في معرض صياغة استراتيجية المواجهة، لما تتعرض له كيانات سورية الطبيعية، والشام تحديدًا في هذه المرحلة، حتى لا تبقى هذه الاستراتيجيات تشوبها نقاط ضعف، تؤدي إلى المزيد من تفتيت المجتمع وتجهيل هويته، بحجة الدفاع عنه.

الدين والفكر والمجتمع

في مطلع حديثه يرى الرئيس أن “ما يحدد قدرة المجتمعات على مواجهة العواصف الهدامة، هي عوامل الاستقرار وتحصينها من الاختراقات الفكرية، ويشدد “على أن قياس تمسك المجتمع بالدين، يكون من خلال قياس أخلاق أبناء المجتمع وسلوكهم“، ويعتبر أن حديثه عن الفكر لا يقصد به سورية، بل هذا الشرق الكبير الديني، من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، ومناطق أخرى، وأن الفكر هو الدين، الذي يستوطن العقل والعاطفة، و يدخل في السلوك، من الماضي إلى المستقبل، ويكفي تخريب هذا الفكر، لنخرب المجتمعات. ونرى في هذا الطرح اختزال خَطِرٌ للفكر، عبر مساواته بالدين.

بعد مئة عام حقق أعداء تلك المجتمعات نجاحات كبيرة، في هذا الشيء، وبدلًا من أن يكون الدين الذي أُنْزِلً أداة لتطور المجتمعات، استُخْدِم ليكون أداة لتخريبها“. يُفضّل في حالات كهذه، تحديد ما هي هذه المجتمعات، وما هي حدود وهوية كل منها. خصوصًا أنه يرى “تعارضًا بين المصالح الدولية، وبين بنية مجتمعاتنا سواء كانت البنية بالمعنى الاجتماعي البحت، بالمعنى العقائدي … ولا يمكننا فصل مجتمعاتنا عن ديننا“. فإذا كنا لا نستطيع الفصل بين المجتمع والدين، فالمجتمع المقصود إذًا هو الذي يحدده دين معين، كالمجتمع الإسلامي، أو المجتمع المسيحي، أو المجتمع البوذي. وهذا تسليم من جهة بالتقسيم الديني للمجتمعات المتنوعة دينيًا كمجتمع الشام، أو سورية الطبيعية، ومن جهة أخرى، بامتداد المجتمعات على بيئات طبيعية وحتى قارات متعددة.

تحديد ضبابي لمن نحن وكيف نواجه؟

خلال القرن الماضي نحن نتراجع.. ونخسر والأعداء يتقدمون.. وعلينا التساؤل من هو المسؤول… نحن أم هم… طبعا نحن، لا نتحدث الآن عن سورية.. بل عن العالم الإسلامي ككل، وسورية في هذا المجال متقدمة جدا، وحققت نقلات نوعية، ولكننا جزء من هذا العالم الكبير، لا نستطيع أن نفصل أنفسنا عما يحصل في العالم الإسلامي.. ” من خلال رأيه هذا، وعندما يكون تحديد النحن بالعالم الإسلامي، فهذا تناقض مع القومية العربية التي يدين بها البعث، حتى لو كان ذلك من باب تحليل ما يحصل في هذا العالم الإسلامي من تطورات. و نقطة الانطلاق هذه، ولو من باب مسايرة المؤسسة الدينية، وإعطائها دورًا وبعدًا تاريخيًا، كما سنرى، تؤدي إلى ترجرج في الرؤية، وفي استراتيجية المواجهة، وقفز فوق الواقع الاجتماعي السوري، والعربي، إلى فضاء أوسع وأكثر تنوعًا، لجهة البيئات واللغات والأعراق، والدورات الاجتماعية الاقتصادية والمصالح والأولويات.

ويعترض الرئيس على الهجمات وما اعتبره إهانة للرموز والمعتقدات: “من الطبيعي في مثل هذه الأحوال، أن يكون بالإدانة الحاسمة والموقف الحازم. وهذا الموق الذي اتخذه علماء بلاد الشام، يعبر عن المؤسسة الدينية بشكل عام، وموقف وزارة الأوقاف، هو موقف الدولة السورية.

ويتابع: “نحن نغضب لكننا لا نتصدى، وهناك فرق كبير بين الغضب وبين التصدي. هل في هذا الموقف، نقد وإدانة لموقف المؤسسة الدينية ووزير الأوقاف والدولة السورية، في ما يتعلق بالرد على الإساءات؟ أم محاولة لتمييز موقف المؤسسة الدينية في الشام، عن غيرها من المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي؟

عندما نتحدث عن مصالحنا، نرى أنها لا تنفصل عن عقائدنا، لأن العقائد أُنْزِلَتْ من أجل المصالح. وبين الهجمة والإدانة والغضب، يتحول الدين إلى كرة بتقاذفها السياسيون الانتهازيون الأول في فرنسا (إيمانويل ماكرون) لديه انتخابات العام القادم، وهو يريد أن يستقطب المصابين برهاب الإسلام.. والثاني لديه انتخابات في تركيا في عام 2023 (رجا الطيب) أردوغان.. ولم يعد لديه من الأكاذيب ما يقنع بها شعبه، ونظرًا لخسارته قرر أن ينصّب نفسه حاميًا للإسلام.

ويتابع: “غضبنا رد فعل، لم يتحول إلى فكر.. أو خطة عمل.. وعندما لا يضبط العقل الغضب يصبح كالعاطفة، الحماس يضرب المسلمات من دون أن نشعر بحسن النوايا.. لأن جزءًا كبيرًا من مفاهيم الدين، مفاهيم غير واضحة.

سوّق الإخوان المسلمون شعار “إلا رسول الله” للدفاع عنه.. الرسول لم تزعجه الانتقادات، بل الكبائر التي ترتكب باسم الدين، كقتل الأبرياء. كيف للمسلم أن يغضب على كلام سفهاء، ولا يغضب من كبيرة من الكبائر…؟

“التصدي يبدأ أولًا بمعرفة العدو الحقيقي أول عدو لأي عقيدة لا يأتي من الخارج… الخطر من أبناء الدين ومن اتباع العقيدة.. يبدأ بالتخلّف والتطرّف وبالتعصّب، وبعدم قدرة أتباع تلك العقيدة على التفكير السليم.

ويتهم الغرب بخلق الإرهاب الذي يعانون منه. “المجتمع الغربي هو من حرض الإرهاب في هذه المنطقة، وهو يضرب عندهم في أوروبا، هم أدخلوا الفكر الوهابي فقط مقابل البترو دولار.. والآن يدفعون الثمن.. ولكنهم يلقون بالمسؤولية على المسلمين، وعلى تطرف المسلمين، وصولًا إلى رموزنا. فإذًا التصدي يبدأ معرفة الخطر، ومعرفة نقاط الضعف… “

الليبرالية الحديثة والمؤسسة الدينية

وعن مناقشات المؤسسة الدينية رأى أنها قطعت خطوات مهمة واسعة بمعالجة نقاط الضعف، “ولكن النقطة المهمة وهي تحديد العدو الحقيقي.. لم تكن واضحة للكثيرين، وهذا العدو هو تيار الليبرالية الحديثة، التي تختلف عن الليبرالية.. فالليبرالية هي تيار سياسي اجتماعي لا مشكلة فيه … بينما الليبرالية الحديثة تطورت منذ حوالي خمسة عقود، بشكل تدريجي خبيث… أساس منهجيتها هو تسويق الانحلال الأخلاقي، وفصل الإنسان عن أي مبادئ أو قيم أو انتماءات أو عقائد، من أجل الوصول لأهدافها.. كتسويق وتشريع الزواج المثلي، وتشريع المخدرات، واختيار الفرد لدينه وجنسه، فضربت إنسانية الإنسان، وهنا تتناقض مع الدين.. لأن الأديان أنزلت من أجل تكريس الإنسانية، عندما يفصل الإنسان عن إنسانيته، ويفصل عن قيمه وعقائده، فيقوده المال والغريزة.. وعندها تسهل قيادته بالاتجاه المطلوب… منهجية هذه العقيدة، هي أن تحول مرجعية الفرد من المرجعية الجماعية.. كما هو إلى مرجعية الفرد ورغباته، بغض النظر عن المجتمع.. ورغباته هي الأساس، فينسلخ عن الأسرة وعن الوطن.. إنها عقيدة ترفض كل العقائد“.

لا شك أن في هذا التوصيف الكثير من الحقيقة، لكن هذه الفلسفة الليبرالية التي ترتكز إلى الفلسفة الفردانية Individualism ليست وليدة هذا العصر، مع كل الأمثلة المتطرفة التي ساقها والتي تعبئ، بالطبع، مستمعيه من العلماء والعالمات. الليبرالية أساسًا، ومنذ القرن الماضي تقوم على الفلسفات الفردانية التي تجعل الفرد هو المعيار، لا المجتمع ولا حتى الأسرة، وهي تنطلق من نظرة دينية مسيحية، تقول أن الله خلق الإنسان الفرد على صورته ومثاله، وبالتالي فالفرد هو المرجع. وهناك العديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع، منهم: جيمس أليشاما سميث، وليام ماكول، جون ستيوارت ميل، توماس كارليل، جيلبيغ سيموندون، فريدريك نيتشه، سيغموند فرويد، ماكس ويبير، سورين كيركيغارد، ونيقولا بيردياييف في أوروبا، منذ القرن التاسع عشر، نظّروا لهذه الفلسفة. والرد على هذه الفلسفة يكون بفلسفة اجتماعية جديدة، جامعة ومتماسكة، لا بتعزيز الدين ومؤسساته ومقولاته، وعلى وجه الخصوص في مجتمع متنوع دينيًا، مثل سورية.

ويتابع الرئيس أن ضرب العقائد هو ليس شيئا جديدا، “فبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، راحت أمريكا تسوق أن زمن العقائد قد ولَّى يعني لا توجد عقائد.. وهذه مرحلة مهمة من مرحلة الليبرالية الحديثة، ويتابع “أن الليبرالية الحديثة لا مشكلة لها مع الدين لكنّه الدين الفارغ من المضمون والمتطرف. أما الدين الصحيح فغير مسموح على الإطلاق“.

ويقول أنه في التسعينيات عندما بدأت الفضائيات تنطلق.. “كنا أمام حالتين: إما فضائيات تفرغ العقل، وتدفع الجيل الشاب نحو التغريب، والخروج عن القيم، ومقابلها تمامًا فضائيات تكرس التطرف، فكنا أمام حالتين التطرف الأول يخلق التطرف الثاني.. والتطرف الثاني يخلق التطرف الأول.. ومصدر تمويل هذه القنوات واحد..

الهجمة الثقافية الليبرالية استهدفت نخب العالم الثالث جميعها، وليس فقط العالم الإسلامي، وسوقت لفكرة أن وطن الإنسان هو حيث يجد حياة أفضل، مما أدى إلى نزف الأدمغة من كل دول العالم الثالث، بمختلف أديانها، إلى الغرب، الذي استفاد منها واحتضنها. والمسلمون في الغرب يدعون المحافظة على القيم الإسلامية، مثلهم مثل علماء بلاد الشام وربما أكثر. وهذه القيم الدينية لم تمنع الملايين منهم من المهاجرة إلى الغرب والكفر بأوطانهم. وبالتالي فإن هذه القيم لوحدها، وما يسميه الرئيس بالدين الصحيح، من دون وضوح الهوية القومية، وصحة الوعي القومي، والوجدان الاجتماعي، وإهمال عامل الأرض والبيئة والوطن، في تشكيل الهوية والانتماء، غير قادرة على تحصين المجتمعات، والصمود في وجه الهجمة الثقافية المعولمة. لأن الدين إنساني بطبيعته وليس قوميًا. وحتى التيارات القومية التي تشطب عامل البيئة والأرض والمتحد، ووحدة الدورة الحياتية الاجتماعية الاقتصادية داخل البيئة الجغرافية، وتركز فقط على عوامل اللغة أو الدين أو الثقافة أو العرق فقط لتحديد الأمة، هي شبه عاجزة عن تحصين المجتمعات، بوجه مغريات الهجرة. وتحديد النحن بأنها العالم الإسلامي أو الأمة الإسلامية، يسهم في سلخ الأفراد والجماعات عن أوطانها الجغرافية، إذًا إنها تعتبر نفسها ما تزال جزءًا من الأمة الإسلامية، والمجتمع الإسلامي والعالم الإسلامي، حتى بعد هجرتها إلى الغرب، واندماجها في مجتمعاته ونيلها جنسية دوله.

وقول الرئيس “أن الدين الصحيح يمنع الأهداف السياسية، بخلقه حاجزًا في سبيل تحقيق الأهداف، وتحويلنا إلى قطعان من المواشي تقاد إلى المذبح.. تستطيعون أن تفهموا لماذا نرى هذا الهجوم الشرس على المؤسسة الدينية.. ” وهذا الكلام يحتاج إلى إثباتات علمية غير متوفرة، بل عكسها هو السائد.

المؤسسة الدينية السورية هي من تدفع الشهداء، من أجل تكريس الدين الصحيح على كل الساحة الإسلامية؟ لذا فهي العدو الأول، كما يرى الرئيس، ويتابع: “هاجموكم كأشخاص وهاجموكم كمؤسسة.. لأن الدين الصحيح يؤسس لبنية اجتماعية، مناقضة تمامًا للبنية الاجتماعية المطلوبة لتسويق الليبرالية. “

لنفترض أن ما تقوم به المؤسسة الدينية هو مناقض لليبرالية وطروحاتها، ولكن هل عملها كافي لتأسيس بنية اجتماعية متينة وصحيحة، ترسخ وحدة المجتمع وتمنع تفتيته وإضعافه، وتحمي أجيالنا من الهجرة إلى الغرب؟ الجواب الفوري كلا. ولكن حتى إذا أردنا أن نكون موضوعيين وعلميين، وسلمنا جدلًا أن النهضة تستمد بعضًا من روحها من تراثنا الديني، فنقول أن ترسيخ بعض القيم الإيجابية المستمدة من الدين الإسلامي المحمدي، الذي تمثل المؤسسة الدينية في الشام، إحدى طوائفه الأساسية، قد يسهم في رفد مجتمعنا ببعض عناصر القوة والمنعة، على أن لا تهمش ما عداها من العناصر، التي يتشكل منها مجتمعنا، سواء كانت مذاهب إسلامية أخرى، أم معتقدات دينية مختلفة، أو إثنيات متنوعة، تشكل جزءًا لا يتجزأ من نسيجنا الاجتماعي في سورية الطبيعية. أما وصف هذه العناصر بأنها متفرقة وضئيلة، على طريقة وزير الأوقاف، فهذا يخدم أهداف الليبرالية الحديثة، ولا يقاومها.

ولعل الرئيس يحمّل المؤسسة الدينية مهمة أكبر من أن تتحملها، وفي الوقت نفسه، يختزل دور المجتمع بالمؤسسة، عندما يقول أن هذه هي المشكلة بينكم كمؤسسة وبين الليبرالية الحديثة“. فتصبح المؤسسة مسؤولة عن رد الهجمة المفترضة من الليبرالية الحديثة، على الدين الإسلامي والعالم الإسلامي، من منطق ديني طائفي يمثل جزءًا من المجتمع، كأن بقية أطراف المجتمع، إما غير مقصودة بالهجمة، أو غير معنية بمواجهتها.

العلمانية والليبرالية

وحول الخلط بين الليبرالية والعلمانية. يدافع الرئيس عن العلمانية ويفصلها عن الليبرالية، “فالهجوم الذي يحصل والطروحات الشاذة، هي طروحات ليبرالية لا علاقة لها بالعلمانية.. العلمانية هي حرية أديان، فيجب أن نميز ونعرف من هو العدو الحقيقي الذي نواجه..

وعن تعرض الجيل الجديد اليوم لثقافات الغرب، من خلال الهاتف والحاسوب، يقول: “قبل ثلاثة عقود كنا نستطيع أن نعيش مع عاداتنا وتقاليدنا ومفاهيمنا.. اليوم هذا الكلام غير ممكن، لا خيار سوى التحصين.. ما هو أهم عامل في التحصين؟ لا بد أن تكون البداية من الدين.. يعني الدين الصحيح…” وهذا افتراض كبير، سببه خلط الدين بالفكر، كما مرّ في بداية الكلمة.

ويرى أن “القياس ممكن في كل المجالات إلا المجال الديني، لا يمكن أن نقيس الدين من خلال عدد المصلين.. أنتم تعرفون أن عددًا من الذين خرجوا من المساجد في بداية الحرب، هم من الملحدين الذين كانوا يهتفون.. الله أكبر… ولكن يمكن قياس أخلاق المجتمع وسلوكه، والمصطلحات الصحيحة التي تستخدم من قبل عامة المسلمين.. نستطيع أن نقيس عندما نرى أن التدين هو الذي يواجه التعصب، وليس الربط بين التدين والتعصب… والذي تحدث بالتعصب وبالطائفية في بداية الحرب، هم بمعظمهم من غير المؤمنين، وإذا كان بعضهم من التيار الديني، فهم غالبًا بالميول الإخونجية، والذين تركوا البلد، والحمد لله، تخلَّصَتْ من كل هؤلاء.. “

هذا كلام شبه تبريري قد يؤدي إلى التعمية على الحقائق. فالكثيرون ممن تحدثوا بالتعصب والطائفية كانوا من المتديّنين، حتى لو تأثروا بالميول الإخونجية. والقول أن البلاد تخلصت منهم هو نوع من الفشل والانهزام، لأن هؤلاء من أبناء المجتمع، الذين لم تستطع لا المؤسسة الدينية ولا حزب البعث تحصينهم والحفاظ عليهم، مع العلم أن أكثريتهم كانوا إما من البعثيين، أو من أتباع مشايخ أنبتتهم المؤسسة الدينية.

بناء الإنسان الجديد على أساس الانتماء القومي الصحيح، والوجدان الاجتماعي، والعقلية الأخلاقية الجديدة، ومنظومة قيم مجتمعية واحدة، لكل أفراد الشعب، ووعي حقيقة المجتمع وهويته ووحدة حياته، وأهمية الاشتراك في الدورة الاجتماعية الاقتصادية الواحدة فيه، هو ما يحصن المجتمع، لا القوميات التي تقوم على الدين واللغة والعرق والثقافة كالبعث، والتي تصبح إقصائية في مجتمع تاريخي متنوع، ولا المؤسسات الدينية التي تتدخل في السياسة والقضاء القوميين، فتسهم في تشييد الحواجز بين الطوائف والمذاهب والإثنيات بدل إزالتها.

اللغة العربية

تطرق الرئيس إلى اللغة العربية التي: “هي حامل الفكر والثقافة بشكل عام، قبل أن تكون لغة القرآن.. عندما تندثر هذه اللغة أو تضعف، كما يحدث في المجتمع بشكل واضح، خطير ومخيف، وهذا غربة بين الإنسان وثقافته.. ” وهنا يحذر من الفصل بين “ثقافة القرآن وثقافة المجتمع…اللعبة واضحة.. لذلك لا نستطيع أن نفك اللغة عن العقيدة، واللغة عن المجتمع، والمجتمع عن العقيدة“. والعقيدة هنا عنى بها الدين. كل الإرث الحضاري الذي أنتجته سورية باللغة العربية بكل طوائفها وفئاتها، على مدى أكثر من ألف عام بعد الإسلام، في كافة مجالات الحياة وعلومها وآدابها، بما في ذلك النهضة العربية منذ القرن التاسع عشر، شطبها الرئيس بحصره اللغة العربية بالقرآن الكريم، وحصره العقيدة بالدين الإسلامي، واختزال المجتمع، ونأمل أن يكون قد قصد المجتمع السوري، لا المجتمع الإسلامي، على كامل مساحة العالم العربي أو الإسلامي.

الأسرة والدين

ويتطرق الرئيس في كلامه إلى الأسرة، “التي هي الوحدة الأصغر في مجتمعاتنا الشرقية، لا الفرد كما تسوق الليبرالية الحديثة، وهي أساس سلامة المجتمع، و وضربها أهم الخطوات لضرب البنية الاجتماعية، لذا ركز الدين على الأسرة، وعليه يجب أن نركز في عملنا الديني والاجتماعي عليها، لأن الأسرة بدأت تتفكك بفعل عوامل مختلفة، منها تطور الحياة… العوامل التقنية، والهجمة على الثقافة..

هناك مسلًّمات يبنى عليها المجتمع … القيم والعادات والتقاليد والمفاهيم، علينا تمتين هذه المسلمات فهي إذا فقدت أو ألغيت يصبح الكبير كالصغير، والطالب كالمعلم، يأخذون دور الوالدين، وتلغى الحدود بينهم.. ويصبح الفاسد كالشريف، والظالم كالمظلوم.. إذا أرادوا أن يصلوا إلى الانهيار السياسي فلا بد من الانهيار الاجتماعي..

لا شك أن للأسرة دور في احتضان الأفراد. ولكن طرحها بهذا الشكل، من دون مؤسسات اجتماعية تأخذ الأفراد إلى التفاعل المباشر مع المتحد المحلي، خارج نطاق الاسرة والعشيرة والقبيلة، وإلى الانخراط في التفاعل الحياتي الأوسع في المتحد الأتم، الذي هو المجتمع بحسب التحديد العلمي له، وتأسيس قيم اجتماعية وأخلاقية، تأخذ ما هو جيد من المسلّمات الموروثة وتتخلص مما هو سيء وقديم ورجعي، كل هذا هو تراجع من الرابطة القومية والاجتماعية، إلى الرابطة الدموية والأسرية، وتعيدنا إلى عصر العشائرية والقبلية والعائلية والإقطاع من جديد. فتنتج انتماءات ومصالح محدودة وقاصرة عن تحقيق وحدة المجتمع وتحصينه. وقد رأينا أسَرًا كثيرة محافظة على الرابطة والقيم الأسرية والمسلّمات، الموروثة من عصور الانحطاط والجهل والتخلف، تهاجر بأكملها إلى الغرب وتستوطن فيه. إذًا هذه نظرة مجتزأة وقاصرة. وإن كانت ضرورية فهي غير كافية، لتحصين المجتمع بوجه ما يسميه الرئيس هجمة ثقافية، تقوم بها الليبرالية الحديثة.

ثم انتقل إلى تهنئة المؤسسة الدينية على إنجازها موضوع التفسير، الذي يعتبره أساس العمل الديني، وأن ما قاموا به هو إنجاز تاريخي. “وهو بداية الطريق لفهم الدين الصحيح، لمكافحة التطرف أيضًا، من خلال التطبيق الصحيح للدين..

فصل الدين عن الدولة

ومع أن الرئيس دافع عن العلمانية، ولو شكليًا، وهذا من بدايات التراث البعثي، لكنه انتقد فصل الدين عن الدولة، واعتبر كما وزير الاوقاف، أن هذا يؤدي إلى فصل الدين عن المجتمع! وفي هذا خلط بين الدولة والمجتمع. فيسأل: “كيف يمكن فصل الدين عن الدولة؟” ويجيب “ممكن ولكن في حالة واحدة عندما نفصل الدين عن المجتمع لأن الدولة تتجذر حيث يتجذر المجتمع. وعندما ينفصل المجتمع عن جذور محددة، فلا بد للدولة أن تنفصل عن هذه الجذور، فهي مرآة المجتمع“. هذا منطق مشوش. فإذا افترضنا أن الدولة تتجذر حيث يتجذر المجتمع، (لا معنى دقيق لذلك)، فهو يفترض أن الدين ينفصل عن المجتمع اذا فصلنا الدولة عن الدين. وفي هذا خلط بين الدولة والمجتمع. مع أن الدين يمكن أن يفصل عن الدولة، التي هي شأن ثقافي بحت، وشأن سياسي بحت، يرعى مصالح المواطنين ويؤمن المساواة في الحقوق والواجبات، والعدالة الاجتماعية، ودور المرأة في المجتمع والحياة العامة، من دون أن يتم الغاء الدين من المجتمع، أو فصله عنه، وتحديدًا في المجتمعات المتنوعة دينيًا وطائفيًا. وهو يتابع بالتأكيد: “أن مجتمعاتنا عقائدية، وستبقى عقائدية لقرون.. ففصل الدين عن الدولة بالشكل الذي يطرح يعني فصل الدولة عن المجتمع“.. هذا المنطق غير متماسك. فلو افترضنا أن المجتمع سيبقى عقائدي (يقصد ديني)، فهذا لا يعني بالضرورة أن الدولة لا يمكن أن تنفصل عن الدين، أي أن يبقى الدين منزهًا عن السياسة، وتبقى الدولة بعيدة عن التأثيرات الدينية والطائفية، وبعيدة عن استغلال رجال الدين لمكانتهم الروحية، للتدخل في شؤون الادارة والسياسة والاقتصاد والقضاء وغيرها، وهي مجالات بحاجة لتخصصات حديثة. أما القول بأن فصل الدين عن الدولة يعني فصل الدولة عن المجتمع، فهذا خلط كبير يساوي بين الدين والمجتمع. واذا دمجنا ذلك مع الخلط السابق بين المجتمع والدولة، نخرج بخلطة غريبة عجيبة تناقض كل علوم الاجتماع والسياسة المعاصرة، وتعود إلى ضبابية مفاهيم الدول القديمة، وهي أن المجتمع والدين والدولة شيء واحد.

ومن أجل ترهيب من يطرحون فصل الدين عن الدولة وتسخيفهم، يقول أن من يطرحونه يعبرون به “عن سذاجة لأنهم يعتقدون بأن فصل الدين عن الدولة هو خطوة في مكافحة الإرهاب أو التطرف مع أنه لا يوجد علاقة على الإطلاق بينهما، وهؤلاء الأشخاص الذين لا يمتلكون المعرفة لا بد من محاورتهم والشرح لهم..

هناك خلط وخطأ، عند من يعتقد أن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة.. فلا علاقة بين العلمانية وفصل الدين عن الدولة، لأن العلمانية هي حرية واحترام الأديان، وهذا في صلب ديننا.. وفي صلب ممارسات الرسول الكريم، احترام الآخرين وحرية الأديان.. فلذلك العلمانية في مكان آخر لا علاقة لها بالليبرالية ولا فصل الدين عن الدولة“. العلمانية إذًا هي النموذج الإسلامي باحترام الأديان، بالرغم من وجود أمثلة عديدة تناقض ذلك في الدين الإسلامي. وهذا التوصيف يعيدنا بأحسن الأحوال، إلى عصر أهل الذمة ودفع الجزية كمقومات للعلمانية! ولا بد من الإشارة الى أننا كنا نعتقد كقوميين اجتماعيين، متأثرين ربما بالمثقفين القوميين العرب والاسلامويين في بيروت، أن الأوساط الاسلامية المحمدية تنفر من كلمة علمانية لأنها قد تعني الالحاد كما استخدمت في الغرب أو في العالم الاشتراكي السابق، وأن الأخف وطأة هو فصل الدين عن الدولة. لكن كلام الرئيس ووزير الاوقاف تظهر تفضيلاً للعلمانية ورفضاً لفصل الدين عن الدولة، ولو من دون تحديدات واضحة للمفاهيم!

وينتقد الرئيس فكرة استبدال الديانة في المدارس بمادة التربية الأخلاقية: “لا أخلاق من دون دين، والعكس صحيح، والأخلاق الفردية لا تعني أن المجتمع سيكون أخلاقياً.. والدين يقوم بضبط العلاقات الأخلاقية بين الناس، ويمكن أن تنحرف أخلاق الفرد بفعل المؤثرات، لكن الدين يشكل رادعًا عن الانحراف. عندما نقول بأن هناك مجتمعًا أخلاقياً لا يعني أن نلغي القانون، فلأخلق لا تنظم، الدين ينظم العلاقات الأخلاقية.. الدين الصحيح المرتبط بجوهره وبمقاصده”.. الدين قانون يضبط المجتمع.. القانون يضبط العلاقات بين الناس بالمعنى المؤسساتي، أما الدين فهو يضبطها بالمعنى الذاتي والعقائدي.

ربما ينطبق هذا المنطق على الملة أو الطائفة أو المجتمعات ذات الطائفة الواحدة. لكنه يعطي للدين دورًا تنظيميًا لضبط المجتمع. ومع اختلاف الأديان والطوائف، حتى بوجود طائفة تشكل أكثرية شعبية، يعني أن قوانين ضبط وتنظيم المجتمع، بالمعنى الذاتي والعقائدي والأخلاقي، ستكون مختلفة باختلاف الأديان والطوائف وأساليبها وشرائعها، مما ينتج مجتمعًا مفتّتًا، مقسّم المرجعيات والقوانين والضوابط. وهذه وصفة دائمة، للصدامات والاختلافات الداخلية. خصوصًا في ظروف الأزمات والتدخلات الخارجية، التي قد تؤدي إلى تأثر كل طائفة بطرف خارجي، تتبنى وجهة نظره، مما يؤدي إلى حرب المجتمع على نفسه، كنتيجة لتضارب المصالح الخارجية، التي قد تتبناها مرجعيات الأديان والطوائف المتعددة. وهذا يضعف دور القانون المدني ودور الدولة. وهو يدمج الدين ليس فقط مع الدولة والمجتمع، كما ورد سابقًا، بل مع القانون أيضًا، الذي يجب أن يكون واحدًا وعادلًا، يضمن الوحدة والمساواة والعدالة لكل المواطنين. وفي بداية الحرب في الشام، والتحاق البعثيين بالآلاف بالجماعات المسلحة، التي تقاتل الدولة، كما حصل أولًا في درعا، التي كانت تعتبر مدينة بعثية بامتياز، كنا نتساءل عن طريقة تربية حزب البعث لأعضائه، وعن المنظومة الفكرية العقائدية الأخلاقية القيمية، التي يرسخها عندهم. وكان الاستنتاج أنه لا يقوم بهذه المهمة. ويتبيّن من كلام الرئيس هنا، أن هذه المهمة تركها البعث على ما يبدو للمؤسسة الدينية، فكانت النتيجة ما شهدناه من تحوير لما تبنيه هذه المؤسسة، وسهولة استغلاله من قبل الجماعات التكفيرية، أو الإسلام السياسي الممول خارجيًا، خاصة في ظل تفاقم مشكلات الفقر والجهل والأزمات الاقتصادية، والفساد والتفاوت الاجتماعي.

العروبة الحضارية

في حديثه عن العروبة الحضارية يتحدث الرئيس عن: “خطورة التشكيك بعروبة سورية وبلاد الشام والعالم العربي، والتشكيك بعروبة القرآن والقول أنه كتاب سرياني، وبعروبة الرسول من خلال القول مستعرب.. والمقصود ضرب العروبة والإسلام، ومنذ أثر من مئة عام ساهم الإخونجيون في التفكيك بينهما… نعيش أزمة هوية منذ قرن، بل ربما من زمن التتريك… وبدأ بعضهم يسأل نفسه أنا مسلم أكثر أم عربي أكثر… هل أنا أنتمي إلى دمشق أو حلب أو دير الزور أو اللاذقية أكثر أم أنتمي لسورية أكثر… ما هو التعارض؟ أنت تنتمي لعائلتك ولحيك ولقبيلتك ولطائفتك ولمدينتك وتنتمي للوطن وتنتمي للدين.

هذه الإشكالية لا تحل بالجمع. والجواب الذي يعطيه الرئيس على سؤال: “أنا مسلم أكثر أم عربي أكثر”، والذي بدأ كإشكالية منذ أواخر أيام العثمانيين، لا يحل بالقول أنك تنتمي إلى الوطن وتنتمي إلى الدين، بنفس النسبة. فالانتماء إلى الدين قد يجعله يتبع مرجعيات دينية خارج الوطن أو داخله، تعمل لغير مصلحته. المشكلة ليست عندما تكون مصلحة الدين ومصلحة الوطن متفقتين ومتناغمتين. المشكلة هي عندما يحصل تضارب، فأي منهما أهم وأولى؟

ويتابع الرئيس شرحه عمن “يريدون التفريق بين العروبة والإسلام، بين القرآن ولغته، وبين المسلم والمسيحي، ويضربوا جوهر الانتماء العربي للمجتمع، الذي تكرس عبر السياق التاريخي بقولهم، أن سورية كانت مسيحية، قبل الإسلام، تتحدث وتكتب بالسريانية وأتت الغزوات الإسلامية العربية من الجنوب لتلغي اللغة السريانية.. الحقيقة أنهم هم خلطوا بين ثلاثة أشياء ليست مرتبطة بالزمن، وهي العرب كعرق واللغة العربية والإسلام كدين.. فالعرب متواجدون في هذه المنطقة في بلاد الشام عشرة قرون قبل الميلاد، وقد ذكر العربي، أول مرة بالوثائق أو بالمخطوطات الآشورية كان في القرن العاشر قبل الميلاد أعتقد في عام 950 ق.م القبائل العربية أتت إلى تدمر في الألف الأول قبل الميلاد، ولكنهم كانوا يتحدثون اللغة الآرامية لأنها كانت اللغة السائدة.. الأنباط قبائل عربية أتوا في بضع مئات.. قبل الميلاد وسكنوا في جنوب بلاد الشام، تحدثوا بالعربية، ولكنهم يكتبون بالآرامية.. وبعدهم أتى العرب الغساسنة.. كانوا مسيحيين سكنوا في جنوب بلاد الشام. تحدثوا العربية، وكتبوا بالآرامية، فاللغة شيء والعرق شيء والكتابة شيء آخر لا يمكن الربط بينهما.. وتفاعلت اللغات، أما عندما وصلت قريش إلى سورية فلا يمكن لقريش أن تقوم بغزو كل هذه المنطقة وتبني لأفرادها دولة من المحيط الأطلسي إلى مناطق في أواسط آسيا.. غير ممكن بحكم الحسابات البسيطة.. بنيت هذه الدولة بأبناء هذه المنطقة، أما بالنسبة للغة فلن تأتي اللغة لكي تلغي لغة أخرى.. السريانية كانت اللغة المحكية، ولم تكن لغة الكتابة، اللغة الإغريقية أي اليونانية كانت اللغة الرسمية، وبعد إنشاء الدولة الأموية استمرت هذه اللغة رسمية حتى العام الخامس والستين للهجرة.. أما اللغة السريانية فقد بقيت هي اللغة المحكية حتى القرن الثاني عشر أو الثالث عشر، بعد سبعة قرون من مجيء الإسلام فلم يأت أحد ليلغي أحًدا، ولم تأت لغة لتلغي لغات.. بل استمرت مناطق القلمون ومعلولا وغيرها تتحدث السريانية حتى اليوم.

هذا السرد التاريخي جيد، خصوصًا لجهة استبدال أهل بلاد الشام للغة السريانية والآرامية باللغة العربية تدريجيًا، بعد أن كانت القبائل العربية التي جاءت الى سورية تكتب بالآرامية. ولكن استخدام مجيء بعض القبائل العربية منذ أكثر من ألف سنة قبل الميلاد، مثل التدمريين والأنباط والغساسنة، لإثبات الأصل العربي لسورية، فهذا نوع من الاختزال لبقية مكونات الشعب السوري، والإصرار على أن العرق العربي هو الأصل للشعب السوري، مع أن القبائل العربية هذه، شكلت جزءًا صغيرًا من مكونات الشعب، بأصوله الآرامية والكنعانية والأمورية والحثية وغيرها، أصول اندمجت في ما بينها عبر التاريخ. وهذا الشعب السوري المتنوع الأصول والأعراق، والذي هو مزيج متميز منها، هو من بنى الدولة الإسلامية الأموية، ومن بعدها العباسية، ونشر الإسلام في كل أصقاع العالم القديم، وليست قريش وحدها، كما أكد. لذلك سرد التاريخ للدفاع عن عروبة سورية، والقول أنها تعود إلى آلاف السنين قبل الفتح العربي، هو أيضًا تعديل للحقائق التاريخية، للتوافق مع نظرية القومية العربية، ولتفادي إقصاء الفئات “غير العربية” من الشعب السوري، وإسقاط الهوية العربية عليها بالقوة.

وبعد شرحه لعروبة القرآن والرسول، أضاف الرئيس: “أما الكلام عن عروبة سورية، يكون صحيحا بالمطلق، لو أن عروبة المجتمع هي هوية جامعة، وليست منطلقة من طائفة وعرق وثقافة دينية محددة، تشطب تاريخ سورية ما قبل الإسلام ومساهمة أبنائها على تنوعهم في الانتاج الفكري والثقافي والحضاري حتى باللغة العربية بعد الإسلام… عندما نتحدث عن العروبة فنحن نتحدث عنها بالمعنى الحضاري وليس بالمعنى العرقي ولو كانت بالمعنى العرقي لما دافع عنها أحد“.

كما قلنا في مقالنا السابق الذي ناقش طروحات الرئيس المحدّثة للقومية العربية، والتي انتَقَد فيها العروبة العرقية لصالح العروبة الحضارية، فإن ذلك يشكل تقدمًا على المنطلقات القديمة للقومية العربية، التي كانت تربط العروبة بالأصل العرقي العربي، والتي تقول بأن الشعب السوري قبل الفتح الإسلامي هو شعب عربي، وما زالت بعض كتب التاريخ في الشام تعتبر الكنعانيين والآراميين والأشوريين والأكراد عربًا بطريقة ما. كما أن بعض دعاة القومية العربية، وحتى بعض العلماء المسلمين، الذين أرادوا استعادة الخلافة للعرب، كما سنرى لاحقًا في هذا المقال، تحدثوا عن فضل العرب في الإسلام، وأن مجد الإسلام بناه العرب. وكل هذه مقولات قديمة سلفية، لا تفيد في زمننا الحالي، إلا من باب تكتيكات المعركة السياسية، بوجه الدول الإسلامية غير العربية مثل تركيا، التي تتنطح لقيادة العالم الإسلامي. لكن لا يجوز خلط التكتيك السياسي، بالأسس الفكرية العقائدية.

ويتابع مؤكداً على التنوع الثقافي والعرقي في إطار وحدة حضارية في سورية، ويقول: “نحن نتحدث عن المعنى الحضاري بمعنى التنوع، ونقبل بكل رحابة صدر، أن نقول بأن هذا المعنى الحضاري، فيه ثقافات متعددة وفيه أعراق متعددة، وهذا دليل قوة وغنى، لكن أن نقبل هذا التنوع الثقافي والعرقي، لا يعني أن نقبل التنوع الحضاري فهي حضارة واحدة.. وليس فيها عدة حضارات وثقافات، لذلك الذي يجب أن يحسم موضوع العروبة.. سورية وبلاد الشام والعالم العربي منطقة عربية بالهوية، وإذا كان هناك من يعتقد أنه ببعض الخواطر على الإنترنت أو ببعض المقالات والدراسات أو ببعض الكتيبات والمجلدات يستطيع أن يغير هوية شعب، فهو خاطئ وواهم و ضال.

هذا التأكيد على وحدة الحضارة، في سورية وبلاد الشام جيد، لكنه يتناقض مع كل ما تقدم سابقًا عن دور الدين والمؤسسة الدينية في المجتمع. أما القول أن العالم العربي كله، له هوية عربية واحدة وحضارة عربية واحدة، فهو اختزال، أيضًا، للحضارات القديمة السابقة للإسلام، ليس فقط في سورية الطبيعية، بل في مصر الفرعونية أيضًا، وفي بلاد الأمازيغ في شمال افريقيا. ونحن نميّز بين الهوية والصفة، ونقول أن الهوية هي سورية، والعروبة الحضارية هي صفة لسورية، كما هي صفة للأمم الأخرى في العالم العربي، من الخليج إلى وادي النيل إلى المغرب العربي. وهذا لا يلغي ضرورة التعاون والتكامل بين هذه البيئات والشعوب والأمم، في بوتقة عربية، عبرت عنها غاية الحزب السوري القومي الاجتماعي، بالسعي لإنشاء جبهة عربية واحدة تكون سدًّا منيعًا، بوجه المطامع الاستعمارية الأجنبية، بعد أن تكون كل واحدة من هذه الأمم، قد بعثت نهضتها، وعملت على وحدتها في بيئتها. إذ أن تخطي الواقع الجغرافي والاجتماعي، والقفز إلى وحدات بين كيانات متفرقة من هذه البيئات، كما حصل في الوحدة الشامية المصرية في الخمسينيات، قبل أن يتوحد كل من هذه الكيانات مع مداه الطبيعي المباشر، في البيئة الجغرافية التي ينتمي إليها، هو قفزة عاطفية في المجهول، ومصيره الفشل. لذلك اعتمدنا هذه العروبة، عروبة الأمم العربية الناهضة المتحالفة، أو حتى المتحدة في جبهة عربية واحدة، وأسميناها العروبة الواقعية، التي نسعى إليها، والتي تحترم تاريخ كل من هذه الأمم، وإسهاماتها الحضارية والثقافية، قبل وبعد الإسلام، في مقابل عروبة الأمة العربية الواحدة، التي يقول بها دعاة القومية العربية، والتي تختزل هذه الأمم وتاريخها، بالقول أنها كانت أممًا عربية منذ آلاف السنين، وأن كل الأقوام التي عاشت فيها على مر القرون، هي من أصل عربي، وصولًا إلى تمجيد الأصل العربي قبل الإسلام، كما يقول زكي الأرسوزي، أحد مؤسسي البعث، أو أن تاريخ هذه الأمة ومستقبلها مرتبط بالرسالة المحمدية، التي هي روح الأمة ورسالتها الخالدة، كما يقول ميشيل عفلق المؤسس الآخر للبعث.

ويختم الرئيس كلمته المطولة بمدح المؤسسة الدينية التي كانت رديفًا للجيش، “فالحرب بالمصطلحات الدينية بدأت قبل الحرب العسكرية، وكان أملهم أن الحالة الطائفية ستدفع الناس إلى حمل السلاح والقتال وعندما فشلوا قرروا الذهاب باتجاه الإرهاب، فلو تخاذل الجيش لانتصر الإرهاب، ولو تخاذلت المؤسسة الدينية لانتصرت الفتنة، لذلك كانت الحرب عليكم كأشخاص و كمؤسسة حربًا شرسة جدًا من قبل الطائفيين.. والمتعصّبين ومن قبل الخونة.. من يسميهم الرئيس بالطائفيين والمتعصبين والخونة من أين أتوا، غير من لدن المؤسسة الدينية وجوامعها ومشايخها وتربيتها، وفروع البعث وتنشئته، فتحولوا عند أول هبوب ريح عربية أو غربية، وأول غيث الدعم الخارجي بالمال والسلاح، إلى ما وصّفهم به الرئيس من إرهاب؟ فكيف نعود ونسلم رقبة الوطن والمجتمع إلى الأطراف نفسها، التي فشلت في تحصينه كما يدعو الرئيس؟

وبعد أن يمتدح إنجاز المؤسسة الدينية، على تفسيرها “الذي يتناسب مع تحديات العصر ويشكل مرجعية جامعة لمختلف الطوائف الإسلامية ويشكل نقطة التقاء مع إخوتنا المسيحيين.. ينوه بقدرة تلك المؤسسة على تغيير قانون الأحوال الشخصية، بعد أن عجزت الدولة عن تغييره لأكثر من ستة عقود. وهذه إدانة غير مباشرة حتى لحكم البعث الذي استمر لأكثر من خمسة عقود. لا ضرورة للتعليق على التفسير وانجازات المؤسسة الدينية في هذا المجال، كونه من اختصاصها أصلًا. أما اعتبار هذا التفسير أو تعديل قانون الأحوال الشخصية، الذي أبعد الدولة عن كونها دولة علمانية وطنية، ورسخ فيها السلطة الدينية في الكثير من المسائل المدنية، فهو مسايرة خطرة وغير مطلوبة.

لا بد في النهاية من الإقرار، بأن الرئيس يخوض حربًا على عدة جبهات، وهو يحاول تحفيز المؤسسة الدينية على المشاركة الفعالة في هذه الحرب. وهذا جيد من حيث التكتيك السياسي، من موقعه كرئيس للجمهورية، على أن لا تؤدي هذه المسايرة إلى تعميق الانقسام في المجتمع، من خلال إعطاء المؤسسة الدينية للطائفة الأكبر في البلاد، دورًا في تنظيم المجتمع ككل، بما في ذلك الطوائف الإسلامية الأخرى و”إخوتنا المسيحيين”، من دون أن يكون لهؤلاء رأي في ذلك. فهو من جهة يخوض حربًا مع الإخوان المسلمين المدعومين من تركيا، ومع الوهابيين المدعومين من السعودية والدول العربية الأخرى، والذين لجأوا إلى العنف والإرهاب لإسقاط الدولة “العلمانية الوطنية” من منطلقات طائفية. ومن هذه الناحية فإن تجييش المؤسسة الدينية لمحاربة الفكر التكفيري والتفتيتي والخروج بتفسير وسطي للدين، قد تكون تكتيكاً جيدًا وذكيًا لكنه تكتيك خطر. وهو أيضًا يخوض حربًا ضد العرب، الذين يتهمونه بإفساح المجال لإيران بتشييع المجتمع السوري، وتحويل الدولة وأجهزتها، إلى أداة للمشروع الفارسي الاستعماري كما يسمونه. ويتهمونه، أيضًا، بأنه استعان بالكفّار الروس، وسلّمهم مقاليد الحكم، مما ضرب عروبة سورية وانتمائها الإسلامي. كل ذلك في ظل شعور سلبي، من قبل الشعب في الشام، تجاه العرب والعروبة، وموقف الدول العربية والجامعة العربية من الشام والحرب عليها.

إن استخدام المؤسسة الدينية، أيضًا، واصطفافها إلى جانب الدولة في تسخيف وردّ هذه المقولات، هو موقف ينم عن دينامية سياسية متقدمة. لكن أن نخلط بين التكتيك السياسي والحربي وخطط المواجهة من جهة، وبين التنظير الفكري وتحوير الحقائق العلمية والتاريخية والاجتماعية، لأدلجة هذه التكتياكات، فهذا خلط غير حميد، ويضرب الاستراتيجيا، على حساب كسب التكتيك المرحلي. إن خلط مهام المؤسسة الدينية بمهام الدولة وتنظيم المجتمع والقانون، وتحميلها دورًا تاريخيًا، لمواجهة الهجمة الثقافية التي تشنها الليبرالية الحديثة، على كامل العالم الإسلامي، وتحديد النحن بأنها كامل العالم الإسلامي، والدفاع عن العلمانية كمفهوم إسلامي لاحترام تعدد الأديان، والهزء من مبدأ فصل الدين عن الدولة، ومن دعاته، وتبرير كل ذلك من خلال ربط العروبة بالإسلام، وإعطاء صبغة إسلامية طائفية للحرب وعمليات الدفاع عن المجتمع، مع كل المخاطر التي يحملها هذا التوجه، على وحدة المجتمع وتشويش هويته، واستقواء المؤسسة الدينية، إلى حد استهزاء وزير الأوقاف، بمفاهيم تاريخية مثل الأمة السورية وبالجماعات غير الإسلامية في المجتمع السوري، كل ذلك يؤدي، بشكل مباشر أو غير مباشر، الى ضرب الوحدة الروحية والاجتماعية، وخدمة مشاريع التفتيت والتقسيم واضعاف المجتمع.

إن مواجهة الهجمة الثقافية التي تقوم بها الليبرالية الحديثة في الغرب، يكون بتحصين المجتمع ووعيه لحقيقته الواحدة، وبناء جيل جديد مواكب لعلوم ومفاهيم العصر، يمتلك تفكيرًا نقديًا، يحكم فيه العقل شرعًا أعلى، ويعمل على التحرر والمساواة بين الرجل والمرأة. وتأصيل العلوم والتقنيات الحديثة، في منظومتنا التربوية والفكرية، ودفع الأجيال الجديدة باتجاه المزيد من البحث العلمي والإبداع والتجديد، على كافة المستويات، وتعزيز الإنتاج الفكري والأدبي والثقافي، والتكنولوجي الإبداعي، لإدخال مجتمعنا إلى عصر المعرفة، وتطوير اقتصادنا باتجاه الإنتاج على قاعدة أن يكون كل مواطن منتج بطريقة من الطرق، علمًا ومعرفة وفكرًا وغلالًا وصناعة. والعمل على تحديث الإدارات العامة، باتجاه مزيد من الفعالية والشفافية، وصيانة الحريات، وخلق توازن بين الحقوق والواجبات، وتأمين الحريات والعدالة وسيادة القانون. وهذه مهام أساسية للدولة، لا يمكن أن تتنازل عنها لطائفة معينة، لأن الفكر الديني، الذي يتغنى به الرئيس، من أي دين أتى، غالباً ما يكون قائمًا على مسلّمات جامدة متوارثة، وغير قادرة في أحيان كثيرة على مواكبة مستلزمات تطور الحياة. وهذا الفكر غير مؤهل لقيادة كامل المجتمع والدولة، نحو هذه الاتجاهات المستقبلية، الضرورية واللازمة لتطوير واقعنا الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وللخروج من جراح الحرب، والندوب التي تركتها في نسيجنا الاجتماعي، ودورة الحياة داخل الكيان أولًا، وعلى امتداد الكيانات السورية ثانيًا.

من هذا المنطلق، كان لا بد من نقد هذا التوجه التراجعي، حتى عن العقيدة القومية العربية، باتجاه التسليم بأن العقيدة هي الدين، وأن ما يحمي المجتمع هي المسلَّمات الدينية، لمؤسسة تمثل جماعة واحدة من الجماعات المتنوعة، التي يتشكل منها المجتمع في الشام، أو في سورية الطبيعية كلها. إذ أنه يعيق بناء جيل جديد معاصر، على قيم وأخلاق قومية مشتركة، يستطيع من خلالها مواكبة العصر وتطور الحياة، مع المحافظة على هويته القومية وانتمائه الحضاري.


2- قراءة تاريخية لنشوء فكرة العروبة

بعد هذه القراءة التفصيلية لكلمة الرئيس، لا بد من العودة إلى المراحل التاريخية، التي خرجت من رحمها فكرة القومية بشكل عام، والقومية العربية بشكل خاص، لنفهم السياق التاريخي الذي أدى إلى تطور فكرة العروبة، وأدلجتها مع الوقت، وصولًا إلى ما يطرحه الرئيس. وسنفصل السرد التاريخي، عن نقاش مراحل تطور الفكر القومي العربي.

تطورات مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى

بدأت بوادر النهضة الأدبية العربية في نهاية القرن التاسع عشر، تتخذ أشكالًا سياسية متعددة، عنوانها المشترك التخلص من النير العثماني، واستعادة كرامة الشعب، ولغته العربية وهويته القومية الضائعة، بوجه الهوية العثمانية وحكم الخلافة، الذي ورثه العثمانيون بالقوة من آخر الخلفاء العباسيين، المتوكل على الله الثالث بعد موته عام 1543، واستمر حتى عام 1924 عندما ألغاه أتاتورك.

نتج عن النشاط الأدبي والسياسي في بلاد الشام، زيادة تضييق العثماني وضغطه، مما دفع كثير من المثقفين والادباء والناشطين للهجرة إلى مصر، وبعضهم إلى أوروبا (وخصوصًا فرنسا) وأميركا. وزاد التوتر إثر استلام جمعية الاتحاد والترقي الحكم في 1909، وبدء حركة تتريك المناطق الخاضعة للحكم العثماني، مع أن توجه التتريك كان قد بدأ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وكان من الطبيعي أن تتخذ الحركة المضادة للتريك عنوان التعريب، أو المحافظة على الهوية القومية، للشعب الذي يتكلم اللغة العربية بشكل عام، وتحديدًا في سورية الطبيعية. حيث أن مصر كانت قد استقلت عن العثمانيين، من أيام محمد علي وشنّ ابنه ابراهيم باشا حملة عسكرية على بلاد الشام وصلت إلى مشارف آسيا الصغرى، قبل أن يعود وينسحب بعد تدخل الجيوش الأوروبية ونزولها في بيروت وجونيه عام 1840. تأججت إثر ذلك الصراعات الطائفية، الناتجة عن التدخلات الأجنبية، وحماية كل دولة لطائفة معينة، فكانت مجازر 1840 و1860، بين الدروز والموارنة، والتي لم يكن الولاة العثمانيون بعيدين عنها.

تلك كانت بذور نشوء التوجه العروبي في بلاد الشام، ردًّا على الهوية التركية المفروضة. واللغة لا شك هي من العوامل الرئيسة في تشكيل الهوية القومية، إلَّا أنها ليست عاملًا حاسمًا محدِّدًا، فاللغة الواحدة يمكن أن تتكلمها عدة شعوب وأمم. وفي الوقت نفسه، كان الوعي القومي عند شعوب المنطقة، ما زال في بدايته، غير محدد بشكل علمي، وتختلط فيه العروبة بالإسلام المحمدي، مع الكثير من العواطف والحنين إلى الأمجاد الغابرة، ومع طموحات طوباوية بالتحرر من النير العثماني، واللحاق بالركب العالمي، من دون امتلاك الحد الأدنى من المؤسسات، ومفهوم الدولة، ومفاهيم الفكر المعاصر، والعلوم الحديثة وقتها.

كما أن المجتمع، بعد عدّة قرون من الحكم العثماني، وقد فاته اللحاق بالثورة الصناعية والعلمية والحقوقية والسياسية في الغرب، كانت تتناتشه الغرائز المذهبية والمحلية والثقافة القبلية العتيقة، والمسلّمات الدينية المطلقة الجامدة، والقيم الانهزامية والفردية، وصراع الولاة في دمشق وعكا وحلب وجبل لبنان، وتحالفاتهم ضد بعضهم، ونسبة عالية من الأميّة والجهل والفساد. والنخب يجتاحها ميل أدبي شاعري، أكثر من المنهج العلمي المتين. والوضع الاقتصادي كان ما يزال في عصر الاقتصاد العائلي الزراعي المحلي، مع بعض التجارة والصناعات البدائية والخدمات الأولية. وبالتالي كان هناك غياب لثقة القوم بمقدراتهم، وللخبرات الضرورية للنهضة القومية والاجتماعية والاقتصادية والحقوقية والسياسية والعلمية. وقد بدأ انتشار المدارس والجامعات التي أنشأتها الإرساليات الأجنبية، مع عدد محدود من المؤسسات المحلية، مما عزز قيام النهضة الأدبية العربية الأولى، التي كان أحد جناحيها في بلاد الشام، على وجه الخصوص دمشق وحلب وجبل لبنان والعراق، بعد إصلاحات داوود باشا هناك، والجناح الآخر في مصر في ظل حكم محمد علي ومن خلفه، على الرغم من الاحتلال البريطاني لمصر سنة 1882، إثر ثورة عرابي باشا. وبعدها حولت بريطانيا الاحتلال إلى حماية على مصر سنة 1914، قاطعة بشكل نهائي أي علاقة لمصر مع الخلافة العثمانية.

ظروف الحرب العالمية الأولى والانتداب والتقسيم

كانت سورية الغربية تحت الحكم العثماني مع بداية الحرب العالمية الأولى، تتألف من ثلاث ولايات: هي حلب (تضم سورية الشمالية بما فيها كيليكيا والإسكندرون)، ودمشق (التي تضم سورية الوسطى بما في ذلك البقاع وعكار وحمص وحوران وعمّان وصولًا إلى العقبة)، وبيروت (التي امتدت على كامل مدن الساحل من حيفا حتى اللاذقية)، ومن ثلاث متصرفيات: في جبل لبنان (من زغرتا حتى جزين)، والقدس (شملت غرب فلسطين من سيناء إلى الجليل) ودير الزور (التي شملت منطقة الجزيرة السورية). كما قسمت المنطقة الشرقية في العراق إلى ثلاث ولايات هي: الموصل في الشمال وبغداد في الوسط والبصرة في الجنوب.

خلال الحرب العالمية الأولى، بحثت الدول الغربية عن أسرع السبل، لتقاسم تركة الحكم العثماني المريض. وعُقِدت لهذا الغرض، اتفاقية سايكس بيكو في سنة 1916، التي شطرت سورية الطبيعية إلى شطرين: منطقة للفرنسيين شمال خط يمتد من القدس إلى كركوك، ومنطقة للبريطانيين جنوب هذا الخط حتى قوس الصحراء العربية. وجرت لاحقًا، بعض التعديلات الطفيفة على هذا التوزيع. ثم تبعها وعد بلفور (وزير خارجية بريطانيا وقتها) سنة 1917، لليهود بوطن قومي في فلسطين، مع كل ما رافق صدوره وشرعنته في ما بعد، خلال عقد مؤتمرات السلام وتوقيع صكوك الانتداب (تفاصيل ذلك الوعد مرت سابقًا في مقال خاص).

بالتوازي مع ذلك، وعد البريطانيون الشريف الحسين والي الحجاز، بشكل مبهم، بدولة عربية موحدة في الجزيرة العربية وسورية الطبيعية، في حال ثار ضد الحكم العثماني. وكان ابنه الأمير فيصل قد زار دمشق عدة مرات في سنتيْ 1915 و1916، والتقى عددًا من الجمعيات السورية السرية، التي تدعو إلى الاستقلال عن السلطنة العثمانية، وقيام دولة عربية في سورية، بوجه حملة التتريك. وقد شجعه قادة هذه الجمعيات على الثورة، خصوصًا بعد بطش جمال باشا السفاح بأحرار البلاد، وبعد تفشي الجوع والمرض. وعلى هذا الأساس انطلقت الثورة العربية في 1916 وطردت العثمانيين من الحجاز، وشاركت بعدها، في الدخول إلى خليج العقبة، وصولًا إلى دمشق، بالتعاون مع الجيش البريطاني الآتي من مصر بقيادة الجنرال إدموند اللّنبي. سبق ذلك، عدة ثورات في العديد من المناطق السورية، كرد على التتريك، والتجنيد الاجباري والجور العثماني، فشهدت حلب انتفاضة عام 1895، و‌السويداء عاميْ 1896 و‌1906، وبيروت عام 1903. وفي عام 1909، انطلقت ثورة من بصرى الشام، وعمّت حوران، ووصلت إلى وادي البقاع وبيروت، وحاصر الثوّار القطارات والقوافل والحاميات العسكرية العثمانية الصغيرة، لكن السلطة العثمانية قمعت تلك الثورات بالقوة مما أدى إلى قتل ستة آلاف مواطن. وكان سقف مطالب السوريين حينها، الاعتراف باللغة العربية، ومنح اللامركزية الإدارية كالولايات المتحدة وسويسرا، وخدمة الفرق العسكريّة داخل ولاياتها، وبإشراف ضبّاط من أهالي الولاية. غير أنّ جميع هذه المطالب قد رفضت أو قبلت صوريًا فقط.

وكانت وعود بريطانيا للشريف تتناقض مع وعود والتزامات ومشاريع استعمارية بريطانية أخرى، ليس أقلها اتفاقية سايكس بيكو لتقسيم النفوذ بين فرنسا وبريطانيا في سورية، ووعد بلفور بإعطاء فلسطين لليهود.

بعد ذلك، عمل الفرنسيون والبريطانيون على تقديم الوعود المتناقضة، إلى الفئات الدينية والعرقية الموجودة في مناطق نفوذهم. وشهد مؤتمر لوزان سنة 1923، وتحت الضغط التركي بقيادة اتاتورك، التنازل عن مناطق كيليكيا الواسعة في الشمال السوري من مرسين وطرسوس في الغرب، إلى أضنة وعنتاب وكلس ومرعش وأورفة وحران وديار بكر وماردين ونصيبين وجزيرة ابن عمر في الشرق، بحجة أنها أراضٍ تركية، بعد أن كان مؤتمر سيفر (1920) قد صنفها بأنها أراضٍ سورية، وتشكل جزءًا من منطقة النفوذ الفرنسي.

وفي وثائق وزارة الخارجية الفرنسية، رسالة توجيهية من رئيس الوزراء الفرنسي أرستيد بريان إلى سفير بلاده في لندن بول كامبون، والمفاوض الفرنسي فرانسوا جورج بيكو، بتاريخ 9 تشرين الأول 1915، حدد فيها الخطوط العريضة، لما يجب أن تشمله الحصّة الفرنسية في التفاوض مع بريطانيا، الممثلة بالدبلوماسي مارك سايكس. وجاء فيها: “يبدو أن الحل الأبسط يكمن في تثبيت الحدود الإدارية الحالية لسورية. وهكذا، فستشتمل أرضها على ولايات أو متصرفيات القدس وبيروت ولبنان ودمشق وحلب، وفي الشمال الغربي على الجزء الكامل من ولاية أضنة الواقع جنوب طوروس”. وقد كانت فرنسا تطمح بضم فلسطين أو ولاية القدس، لكن الدهاء البريطاني أبقى فلسطين منطقة ضمن الحصة البريطانية، مع وعود بتأمين مصالح فرنسا في مرفأ حيفا، وفي المناطق المقدسة في القدس، مقابل تأمين استخدام بريطانية لمرفأ الإسكندرون. وتمّت الاتفاقية بمصادقة روسية وإيطالية.

كما سيطرت كلٌّ من تركيا واليونان على جزيرة قبرص، وحاولتا اقتلاع الهوية السورية منها، على مدى قرن كامل. وعلى الرغم من ذلك، وفي إحصاء قبرصي أُجْرِيَ عام 2010، كانت نسبة السوريين في قبرص ما زالت تتجاوز أربعين بالمئة من السكان، ونسبة استخدام اللغة العربية ما زالت تصل إلى 35 بالمئة.

ومن ضمن اعتمادها سياسة ” فرِّق تسد” حاولت فرنسا في بداية عهد الانتداب تقسيم منطقة انتدابها على أسس مذهبية وعرقية، على الشكل التالي: لبنان الكبير (الموارنة)، الإسكندرون (العلويين والتركمان)، الساحل الشمالي من حدود لبنان الكبير إلى اللاذقية (العلويين والمسيحيين الأرثوذكس)، السويداء وجبل العرب (الدروز)، منطقة دمشق (سُنَّة الوسط)، ومنطقة حلب (سُنَّة الشمال) بما فيها منطقة الجزيرة (الأكراد والسريان).

فشل مشروع التقسيم هذا في بداية العشرينيات، وكان غورو قد أعلن دولة لبنان الكبير سنة 1920، فحافظ الانتداب الفرنسي على دولة موحدة في الشام. لكنه عاد وتنازل عن الإسكندرون لتركيا سنة 1939، لإغرائها بعدم المشاركة في الحرب العالمية الثانية، إلى جانب ألمانيا.

وكان رئيس وزراء فرنسا جورج كليمنصو (1919-1920) قد قام بمفاوضات مباشرة مع فيصل خلال وجوده في مؤتمر الصلح، في كانون الثاني 1920، على أثر المؤتمر السوري الأول (حزيران 1919) الذي طالب بوحدة سورية الطبيعية، وبعد زيارة لجنة كينغ كراين (تموز 1919) المرسلة من قبل الرئيس الأميركي ويلسون، والتي طالبها السوريون بتحويل سورية الطبيعية إلى دولة ملكية دستورية مستقلة، تحت حكم الملك فيصل، طالبين المساعدة الأمريكية في رفض المطالبات الفرنسية والبريطانية للانتداب عليهم. في ظل هذه الأجواء عرض كليمنصو اعتراف فرنسا باستقلال شكلي لسورية، وبحكم فيصل، مقابل أن يعترف فيصل والسوريون بانفصال لبنان سياسيًا عن سورية، على أن يقوم مؤتمر الصلح بتعيين الحدود. وكان ذلك قبل إعلان الجنرال غورو لدولة لبنان الكبير في أيلول 1920. وقد طلب رئيس وزراء بريطانيا لويد جورج من فيصل قبول التفاهم مع الفرنسيين، حيث قال له: “لا يمكننا التخلي عن حليفتنا فرنسا”. ولم يكن الموقف البريطاني مجانيًا، فقد تنازلت فرنسا عن الموصل، التي كانت لها حسب حدود اتفاقية سايكس – بيكو. كما تنازلت عن المناطق الشمالية من شرق الأردن، وهي تشكل امتدادًا لسهل حوران وكانت تابعة لولاية دمشق.

وقد نصّت مفاوضات فيصل – كليمنصو على دعم الفرنسيين لاستقلال سوريا ووحدتها بين الساحل والداخل عدا “لبنان”، واعتراف عصبة الأمم بالاستقلال، وأن تمدها فرنسا بالمال والخبراء الفنيين. من دون التدخل في إدارة الأمور الداخلية، وبالمستشارين العسكريين لتدريب الجيش العربي، إلى أن يستطيع النهوض بأعباء الدفاع عن الوطن، ثم لن يبقى أي جندي فرنسي. ولكن تلك التسوية لم ترضِ السوريين أنصار فيصل، الذين يطالبون بالاستقلال التام، فضغطوا عليه لرفض تلك المعاهدة، وهو ما حصل. وفي الجانب الفرنسي أيضًا، سقط كليمنصو في الانتخابات بعد مفاوضاته مع فيصل مباشرة، وفازت حكومة أليكسندر ميلران الأكثر استعمارية، ورفضت اتفاق فيصل كليمنصو. فتعرضت القوات الفرنسية بشكل متقطع، لهجمات عنيفة في أنحاء سوريا، ثم اجتمع المؤتمر السوري العام في آذار 1920، فأعلن في 8 آذار استقلال المملكة السورية العربية، وأن فيصل بن الحسين هو ملكها، كما أعلن عن إنشاء حكومة مسؤولة أمام المؤتمر، الذي هو بمثابة مجلس نيابي، وكان يضم ممثلين انتخبهم الشعب في سوريا ولبنان وفلسطين. كما رفض المؤتمر ادعاء الصهيونية، في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. كذلك عقد مؤتمر مماثل في العراق، وطالب بمملكة عراقية مستقلة، يرأسها عبدلله بن الحسين شقيق فيصل، الذي كان يشغل منصب وزير خارجية مملكة الحجاز وقتها.

رفض الإنجليز والفرنسيون هذه الخطوات، لذا فقد عقد المجلس الأعلى للحلفاء مؤتمر سان ريمو بين 19-25 أبريل 1920 في إيطالية، حيث خرج بمطالبة صريحة بانتداب فرنسي على بلاد الشام، بالإضافة إلى انتداب الإنجليز على العراق وشرق الأردن وفلسطين، مع الالتزام بتطبيق وعد بلفور. تجدر الإشارة أن هذا القرار صدر عن مجلس الحلفاء، وليس عصبة الأمم، حيث أن صك الانتداب الرسمي صدر في 24 تموز 1922 أي بعدها بسنتين. فأضحت المواجهة بين حكومة فيصل والفرنسيين حتمية، وحصلت معركة ميسلون في تموز 1920، وطرد فيصل من دمشق وألغيت مملكته.

أما بريطانيا، التي كانت أولويتها العمل من ضمن مهام الانتداب، على تحقيق وعد بلفور، وحماية المشروع اليهودي، فقد نكثت بكل وعودها إلى الشريف الحسين، نتيجة التزاماتها الأخرى، المتناقضة مع هذه الوعود. لكنها حاولت التعويض عليه بإبقائه حاكمًا في الحجاز، بينما نصّبت ابنه فيصل ملكًا على العراق في تموز 1921، بعد أن طرده الفرنسيون من دمشق. لكن الشريف الحسين رفض التوقيع على الاتفاقية البريطانية الهاشمية، بعد الحرب العالمية الأولى، لأنها كانت تتضمن القبول بوعد بلفور، ومشروع الوطن القومي اليهودي في فلسطين. بينما وافق ابن سعود ضمنيًا على تمرير المشروع. فانتقل الدعم البريطاني في الجزيرة من الشريف حسين إلى ابن سعود حاكم نجد، الذي شن حربًا على الهاشميين في الحجاز، وطردهم منها نهائيًا عام 1925، بعد أن سيطر على الرياض. فهاجر الشريف حسين إلى قبرص، حيث عاش بضع سنوات وتوفي هناك.

وبعد مضي شهر على معركة ميسلون، وطرد الفرنسيين للملك فيصل من دمشق، وقعت في حوران السورية انتفاضة قادها شيوخ المنطقة ضد السلطات الفرنسية، واضطر قادة الانتفاضة فضلا عن وقوف أهالي شرقي الأردن إلى جانبهم، لطلب العون من الشريف حسين، الذي قام بالاتصال بالسلطات الفرنسية ينذر فيه بالكوارث والأخطار التي ستحل، وبعث بابنه الأمير عبد الله، الذي كان وزيرًا للخارجية في مملكة الحجاز، مع قواته باتجاه شرقي الأردن، ليكون عبد الله وكيل أخيه في ما حول سوريا من الأراضي التي لم يحتلها الفرنسيون. غادر عبد الله من الحجاز ومعه من القوات ألف مقاتل، ودعا جميع أعضاء المؤتمر السوري للالتحاق به في شرق الأردن. فقام البريطانيون بإرضائه من خلال إقامة إمارة صغيرة له في شرق الأردن عام 1921، تحت الحكم البريطاني للمنطقة، منفصلة عن فلسطين من جهة، وعن العراق من جهة أخرى، مع أن ملك العراق كان أخاه وذريته. وموقع هذه الإمارة يفصل مملكة ابن سعود عن فلسطين أيضًا. وقد وعد البريطانيون الأمير عبد الله الأول بن الحسين، باستثناء شرق الأردن من وعد بلفور، مقابل قبول عبدالله به ضمنيًا في فلسطين. فيما بقيت الوكالة اليهودية تسوّق، بأن شرق الأردن جزء من “أرض إسرائيل” المزعومة. وكان أخوه فيصل قد رضي قبله، بتنصيب البريطانيين له ملكًا على عرش العراق، ووافق ضمنيًا على وعد بلفور، من خلال اتفاقية فيصل وايزمان عام 1919، مع تحفظه على أن لا يضر ذلك بغير اليهود، من سكان فلسطين!

وبقي الأقارب يحكمون العراق والأردن، ويدعون إلى قيام وحدة الهلال الخصيب من جهة (نوري السعيد في العراق)، ووحدة سورية الكبرى من جهة أخرى (الملك عبدالله في الأردن)، من دون أي تفعيل جدي، لأي اتحاد أو وحدة بين الكيانين، من مطلع العشرينات حتى 14 شباط 1958، عندما أعلن عن قيام الاتحاد الهاشمي بين العراق والأردن، وهو اتحاد غير اندماجي كونفدرالي، كردّ على قيام دولة الوحدة بين مصر والشام (الجمهورية العربية المتحدة) في 1 شباط من العام نفسه. غير أن هذا الاتحاد كان شكلياً ولم يعمّر طويلاً إذ أطاحته ثورة تموز 1958 في العراق. ومن النماذج المشابهة، حكم حزب البعث في الشام من 1963 حتى اليوم، وفي العراق من 1968 حتى 2003، دون أي تقارب يذكر. بل أدى حكم البعثَيْن إلى تعميق العداوة، وقطع التعاون الذي كان قائمًا في السابق، كإيقاف تصدير نفط العراق عن طريق الشام ولبنان منذ منتصف السبعينيات. وكان التناقض في السياسات بين الدولتين، هو عنوان المرحلة في معظم المسائل البينية والعربية والإقليمية والدولية. إلى أن جاءت “داعش” سنة 2014، وأزالت الحدود بين العراق والشام ببضع جرافات!

حصلت كل هذه التطورات في فترة سريعة جدا، خلال العقدين الأولين من القرن العشرين، من غير أن تكون المنطقة العربية برمتها جاهزة، لمواكبتها والإفادة من التغيرات، فكانت النتيجة أن التحرر من النير العثماني، رمى بالمنطقة في أحضان الانتداب الأوروبي، وخططه ومؤامراته وتواطئه مع المشروع اليهودي. ترافق ذلك مع غياب مفاهيم معاصرة للدولة والديمقراطية، وسيادة الشعب والوجدان القومي، والوعي الصحيح للهوية القومية، وعدم وجود مؤسسات مدنية أو عسكرية عريقة، يمكن البناء عليها، ما عدا بعض المؤسسات الدينية المتشرذمة بين الطوائف والمذاهب.

لذلك اختُصِرَت البدايات بالدعوة إلى الهوية العربية، بمواجهة التتريك. وكان لا بد من تمييز الإسلام السوري، أو العربي عن الخلافة العثمانية، لنزع مشروعية السيطرة العثمانية، باسم الدين من خلال الخلافة. ترافق ذلك مع آمال ودعوات هيولية رومنسية، لمواكبة التطور الحاصل في الغرب، مع ما يرافق ذلك من مفاهيم للعلمانية والتحرر والتطور، واصطدام ذلك بالثقافة التقليدية الموروثة.

فجاءت الهوية العربية رد فعل على العدو التركي المشترك، ومحاولاته لتتريك المنطقة. ولكن عندما زال هذا العدو، لم تكن الهوية العربية، التي تخلط الانتماء العرقي مع الانتماء الديني، للطائفة السِّنية الكبرى، قادرة على توحيد المجتمع، المتنوع والموزع طائفيًا وعرقيًا. ففرزت الدعوة العربية الشعب إلى أكثرية سنِّية، وأقليات من طوائف ومذاهب محمدية غير سنية، وأديان ومذاهب غير محمدية، وعرقيات أخرى لا تعتبر نفسها عربية، كالأكراد والسريان والأشوريين، وبعض مسيحيي جبل لبنان، الذين زعموا بأنهم يرجعون بأصولهم إلى الفينيقيين.

كما أن هذه الهوية العاطفية، التي تستلهم أمجاد العصور الغابرة، والدولة الأموية والعباسية، لم تستطع توحيد الشعب، لتخطي الكيانية التي فرضها الانتدابين الفرنسي والبريطاني كل في مناطقه. ولا هي انطلقت من نظرة فلسفية أو اجتماعية، تستطيع توحيد الشعب على منظومة قيم موحدة، ومقاربة موحدة للمسائل المعاصرة، مثل التحرر الاجتماعي والعصرنة والاستقلال والحرية والقومية وشكل الدولة، ودور المرأة والتربية والتعليم. فبقيت مقاربة هذه المسائل مشرذمة بين ما استورِد، أو فرضته البلاد المنتدبة والغرب، وبين بقايا التقاليد الرثة، والقيم المجتزأة، والعادات القديمة الموروثة، من أيام الحكم العثماني، والمسلّمات الجامدة من الموروث الديني، والمترسخة بشكل أساسي في مفاهيم هوية الملّة، التي يقودها ويدافع عن مصالحها رجال الدين، فتم الخلط والدمج بين المؤسسات الدينية والمؤسسات السياسية والمدنية.

وقامت الدول المنتدبة بتعميق هذه التوجهات التفتيتية، التي تمنع وحدة المجتمع، لإبقاء سيطرتها على مقاليد الأمور في البلاد، وتحكّمها بمواردها. كما غذت الخلافات بين الحكام والزعامات المحلية، لإبقاء طموحاتهم الوحدوية لا تتخطى مسألة الحفاظ على كرسي الحكم. فكانت مواجهة الانتداب تتم من خلال الأدوات نفسها التي خلقها ورسخها، لتأبيد سيطرته، ومنع توحيد البلاد، وتمرير مشروع إنشاء الوطن اليهودي في فلسطين.

ومن الأمثلة الفاقعة على ذلك، هي عندما لقّب الشريف الحسين نفسه ملكًا على البلاد العربية، في 1916، إثر إعلان الثورة العربية، واعتبر قضية اللقب في برقيته للمعتمد البريطاني في جدة، وقتها، أمرًا طبيعيًا، كأحد الدلائل المهمة على انتصار العرب، واستقلالهم عن الحكم العثماني. فأخذت بعض الدول الغربية على الحسين، تسرّعه في اتخاذ هذه الخطوة. وقالت له أنها تجد نفسها سعيدة بالاعتراف به ملكًا شرعيًا على الحجاز، على أن لا يحمل اللقب الملكي، على كامل البلاد العربية، لأن ذلك قد يثير المشاكل مع الحكام العرب الآخرين. لم تكتفِ الحكومة البريطانية بذلك، وبعثت إلى الملك حسين بمذكرة رسمية، أوضحت فيها موقفها وموقف حلفائها من الملكية، جاء فيها: “إن حكومة بريطانيا ومعها حكومة فرنسا وروسيا، مع أنها تعتبر أن سموكم الرأس الاسمي للشعوب العربية، في ثورتها ضد مساوئ الحكم التركي، ومع سرورها بالاعتراف اعترافًا واقعيًا بأن سموكم الحاكم الشرعي، والمستقل للحجاز، إلا أنها لا تستطيع الاعتراف باللقب الذي أعلنتموه، والذي يمكن أن يثير التفرقة بين العرب في الوقت الحاضر، ومن ثم يعيق التسوية السياسية النهائية، لقضايا الجزيرة العربية على أسس مُرضية… ذلك أن التسوية النهائية يجب أن تتم بمواقفة الزعماء العرب الآخرين، وهي موافقة لا دليل عليها في الوقت الراهن، وهي تسوية يجب ان تتبع لا أن تسبق النصر في ميدان الحرب. وتلاحظ الحكومة البريطانية أن اللقب الذي اتخذتموه سيادتكم، يقوم على أساس قومي وليس على أساس الأقطار، وهي تسجل ما صدر عنكم من أن ابن سعود، والسيد الإدريسي يحكمان بلديهما (نجد واليمن وقتها)، وأنه لا رغبة لسموكم بالتدخل في شؤونهما”. (وثائق الخارجية البريطانية – أيلول 1916)

وعندما أعلن الشريف الحسين نفسه خليفة المسلمين في عمّان خلال شهر آذار 1924، رفضت مصر الاعتراف بذلك، ودعت إلى عقد مؤتمر إسلامي في القاهرة، لتقرير مصير هذه الخلافة باتفاق المسلمين.

ويوم بدأ الانتداب يسلم بعض نواحي الإدارة المحلية للسياسيين المحليين، غاص كل فريق منهم في الكيانات الناشئة في لبنان وفلسطين وشرق الأردن وسورية الحالية (الشام) والعراق، بتفاصيل المشاكل المحلية العملانية، والمشكلات الطائفية والمذهبية والاقتصادية والادارية والسياسية المحلية، في ظل الصراع على المراكز والمكاسب والتجارة والتوظيف، بين الزعامات الطائفية والمذهبية والسياسية والإقطاعية الموروثة والمستمرة، من أيام السلطنة العثمانية.

فكانت مرحلة ما بين الحربين العالمية الأولى والثانية، هي مرحلة تثبيت الانتداب والكيانات والزعامات المحلية، وصراعات المذاهب والطوائف، والإقطاع التقليدي، ضمن كل كيان، في ما الشعارات الكبرى كانت تتأرجح بين الدعوة العمومية إلى العروبة، والقومية العربية التي كانت واجهة للمذهب الإسلامي السني، وبعض الدعوات إلى قوميات محلية، تستظل دعوات مذهبية أو عرقية أخرى، مثل القومية اللبنانية المسيحية، والدعوات القومية الكردية والأشورية وغيرها. وعلى الرغم من هذه الدعوات، كان سقف الطموح القومي لكل جماعة هو الاستقلال الكياني، وتراجعت الدعوات الوحدوية الواسعة. وتُرِكت فلسطين وحيدة، في مواجهة الهجرة اليهودية والانتداب البريطاني، والتآمر العربي وتدخل ابن سعود والملك فاروق بطلب بريطاني، لإجهاض ثوراتها المتكررة في الثلاثينيات.

الحرب العالمية الثانية ونهاية الانتداب ونشوء كيان العدو

بعد بداية الحرب العالمية الثانية، وسقوط باريس، قامت حكومة فيشي في فرنسا، متعاونة مع الألمان، أصبحت سلطات الانتداب في سورية تابعة لها، فيما أنشأ الجنرال ديغول حكومة فرنسا الحرة في الخارج، بالتعاون مع الانكليز. وفي العام 1941، قام البريطانيون باحتلال مناطق الانتداب الفرنسي الفيشي في المشرق، وازداد النفوذ البريطاني لفترة من الزمن، في هذه المناطق، حيث فرضت بريطانيا على فرنسا الحرة، منح الاستقلال للبنان والشام، وجلاء جيوشها عنها لاحقًا، بعد إيصال حكومات وطنية قريبة من النفوذ البريطاني.

واجهت الحكومات الوطنية مرحلة ما بعد الحرب، وإعلان كيان العدو في 1948، بشكل متفرّق وهزيل أقرب إلى التآمر، مدعومة بأوهام التدخل العربي المصري والسعودي، ولعبت الدعوات القومية العربية الدينية دورًا كبيرًا في تخدير الشعب، ووعده بجرف كيان العدو إلى البحر، من قبل جيوش “الأمة العربية” وجيوش المسلمين الجرارة، التي استلهمت نوستالجيا جيوش دولة الخلافة الإسلامية، ورومانسية القوميات الأوروبية، مع التركيز على عوامل الدين واللغة والعرق أحيانًا.

هذه المدارس الرومانسية، التي تجزئ قوى المجتمع الموحد، في سورية الطبيعية من جهة، وتحلم بالبحر الإسلامي السني، من المحيط إلى الخليج، وترتكز إلى أمجاد السلف، وتغرق في سلفية قيمية وفكرية مقفلة جامدة، وتفتقر إلى أي أساس علمي منهجي، في مقاربة السياسة والاقتصاد والاجتماع والحرب، أودت بالمنطقة إلى النكبة المنكرة في فلسطين، وحافظت على التخلف والفساد، والشرذمة والتفتّت داخل الكيانات، والصراعات فيما بينها، والتبعية للخارج في الشرق والغرب، برغم قيام مؤسسات وحدوية شكلية مثل الجامعة العربية.

مرحلة الاستقلال من الخمسينات حتى اليوم

في مراحل الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، قامت ثورات وانقلابات عسكرية كرد على الهزيمة، لكنها لم تعالج مشكلات المجتمع القديم، بل ركبت موجة القومية العربية نفسها، التي تخلط بين العروبة والإسلام، مما عمَّق الانقسامات الداخلية، واستمرار التخلف والتجزئة والفساد، وأضافت عامل القمع وسلب الحريات، بحجة أن لا صوت يعلو على صوت المعركة. فتحولت في وقت سريع إلى أنظمة قمعية تسلطية، ترفع شعارات فضفاضة للوحدة والحرية، والنهوض والاشتراكية والتقدم، بينما بقي الواقع عكس ذلك، وبقيت الأساسات القديمة، التي حكمت الحياة العامة من القرون الوسطى ومن أيام العثمانيين، أي القبلية والطائفية والإقطاع، متحكمة بحياة المجتمع. ومع أن بعض هذه الأنظمة قد ضرب الإقطاع التقليدي، من خلال حركات تأميم واسعة (مثل مصر والشام والعراق)، غير أن استمرار العقل القبلي الفردي، والصراعات الطائفية والمذهبية، وغياب منظومة قيم اجتماعية وفلسفية جديدة، عادت وافترست معظم الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، التي حاولت هذه الأنظمة القيام بها، وأنتجت أنواع جديدة من الإقطاع والمصالح والتكتلات والشلل، والمذهبيات داخل الأحزاب الحاكمة. وبقيت الشعارات الفضفاضة شماعة تستخدمها لقمع كل معارض، ومطالب بالإصلاح الحقيقي. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة، من مصر جمال عبد الناصر إلى حكم البعث في الشام والعراق.

كما أن الأنظمة التقليدية المتحالفة مع الغرب، سواء الملكية أو المشيخية الوراثية منها في الخليج، أو التي تستظل واجهات ديمقراطية مثل لبنان وتونس، بقيت عاجزة عن تقديم صورة حديثة للدولة القوية القادرة المعاصرة، التي تسودها الحريات والشفافية والديمقراطية والتحرر ومواكبة العصر، إلا ببعض الأشكال والمظاهر، في ما تنخرها المحسوبيات والطائفية والمذهبية والإقطاع والتبعيّة حتى النخاع. كما أن مصالح حكامها قد وضعتها في موقع العداء، لأي طرح وحدوي إقليمي أو فضفاض، حفاظًا منها على عروشها وامتيازاتها.

اشتد صراع النفوذ على المنطقة في الخمسينيات. فكان الاتحاد السوفياتي يحاول تصدير الفكر الشيوعي، ودعم الحركات اليسارية في العالم العربي، على الأخص، وأن طروحات القومية العربية، افتقرت إلى نظرة مستقلة للشأن الاقتصادي والاجتماعي، مما دفع بمعظمها لاعتماد الاشتراكية كمذهب اقتصادي، وتبني نوع مخفّف من نظرية صراع الطبقات، ولو شكليًا. وكان الغرب، بشكل عام، يتخوف من المدّ الشيوعي، فيما أميركا تحاول فرض سيطرتها بعد الحرب العالمية الثانية، ووراثة النفوذين الفرنسي والبريطاني في المنطقة. فنشأت منافسة شديدة بين النفوذ البريطاني تحديدًا، المتمثل بالحكم الهاشمي في العراق والأردن، وبحكم شمعون في لبنان، وبين النفوذ الأميركي المتحالف مع مملكة ابن سعود في الخليج، ولاحقًا مع مصر عبد الناصر في بداية حكمه، على الرغم من محاولاته اللاحقة، لخلق توازن في علاقته بين الأميركان والسوفييت، انسجامًا مع دوره القيادي في حركة عدم الانحياز العالمية، مع جواهر لال نهرو وجوزف تيتو.

دعم البريطانيون مشاريع الهاشميين، الداعية إلى وحدة سورية الطبيعية أو الهلال الخصيب، ولو شكلياً، في وقت دعم الأميركيون مشروع الجامعة العربية، ومثلث التحالف المصري السعودي الشامي، من أيام حسني الزعيم وأديب الشيشكلي في الشام، والملك فاروق في مصر، إلى أيام عبد الناصر والوحدة الشامية المصرية. وقد استمر هذا الطرح سائدًا بعد هزيمة النفوذ البريطاني، إثر ثورة تموز 1958 في العراق، وسقوط كميل شمعون وتولي فؤاد شهاب رئاسة الجمهورية في لبنان، كتقاطع ناصري أميركي. فتسلمت أميركا قيادة النفوذ الغربي في المنطقة. وبعد غياب عبد الناصر وتولي أنور السادات الحكم، خيضت حرب 1973 التي كان فيها شبه تحالف مصري شامي سعودي، مع استخدام الملك فيصل لسلاح النفط، وأدى ذلك إلى اغتياله. ولاحقا ذهب السادات إلى القدس ومن ثم إلى كامب دايفيد، مما دفع بالدول العربية إلى مقاطعة مصر لعقد من الزمن، قبل أن تعود في عهد حسني مبارك، إلى الجامعة العربية، بعد حرب الخليج الأولى (الكويت) وعزل عراق صدام حسين، وهزيمة منظمة التحرير في لبنان، إبان الاجتياح “الإسرائيلي” قبل ذلك. فتجدد التحالف المصري السعودي الشامي، الذي أدى إلى تلزيم، مرحلة ما بعد الحرب اللبنانية، إلى الشام بقيادة الرئيس حافظ الاسد، وإفساح المجال لرئيس الحكومة رفيق الحريري بقيادة عملية إعادة الاعمار، فكان تقاطعًا سوريًا سعوديًا برعاية أميركية. وكان الأميركان في هذه المرحلة، يراهنون على جرّ سورية والمنطقة، إلى سلام شامل مع “إسرائيل”، والذي فشل في نهاية عهد حافظ الأسد، بعد رفضه التنازل عن حدود بحيرة طبريا واستعادة جزئية للجولان. واستمر الوضع على ما هو عليه، إلى مرحلة بدء الهجوم على سورية، وقانون محاسبة سورية في سنة 2004، ثم اغتيال الحريري، وخروج الجيش الشامي من لبنان في سنة 2005، وحرب تموز 2006 التي زعزعت العلاقة بين الشام والسعودية. وبدأت مرحلة التحضير للربيع العربي، وتحكيم الإخوان المسلمين في العالم العربي، بقيادة تركية وتمويل قطري، الذي انطلق في عدة دول عربية سنة 2011. وكان التسويق لهذا المشروع يرتكز على فشل منظومة القومية العربية في الحكم، في معظم الدول العربية، بينما كان نظام الإسلام السياسي في تركيا، عنوانًا للتنمية والازدهار والتطور. وعندما لم يوفق المشروع التركي الأميركي بإسقاط النظام الشامي بسرعة، ودخول عناصر جديدة في الصراع، بدّلت أميركا الأحصنة، وسلّمت قيادة الحرب على سورية إلى السعودية، كاستعادة للدور الإسلامي العربي، وتهميش الدول الإسلامي التركي. فاستُبعد الاخوان وحلّ محلهم الوهابيون. وبعد التدخل الروسي والإيراني في الحرب، أيقن الأميركي أن مدّ نفوذه على كامل العالم العربي، أصبح مستحيلاً، فاكتفى بمنطقة حوض البحر الأحمر، التي تضم دول الخليج ومصر والسودان، وبدأ حصارًا اقتصاديًا وحربًا من نوع آخر على دول الهلال الخصيب، بانتظار يوم يتقاسم فيه النفوذ على هذه الدول، مع الروسي والإيراني والتركي. وهذا أدى إلى تردّي الوضع الاقتصادي، في العراق ولبنان والشام، التي عمّها الدمار وواجهت مجموعة من المشكلات الكبرى، ليس أقلها التضخّم وضرب سعر الصرف، ومشكلات إعادة الإعمار، وعودة النازحين وغيرها.

إن تعريف الوحدة العربية الذي ساد في حقبة الستينيات وحتى الثمانينيات، كان يتبنى الوحدة الاندماجية. وبعد فشل الأحزاب والقادة الذين رفعوا شعار تلك الوحدة، بات بعض القوميين العرب يطرحون مفهومًا جديدًا للوحدة العربية، يعتبر قريبًا من المشروع الأوروبي، أي الدعوة للانصهار في كتلة ذات سياسة خارجية موحدة، وذات ثقل اقتصادي كبير، يقوم على التكامل الاقتصادي والعملة الموحدة، وحرية انتقال الأفراد والبضائع بين الأقطار المختلفة، بالإضافة لتفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشترك، للوصول إلى اتحاد عربي، مع المحافظة على خصوصيات اجتماعية أو ثقافية، قد توجد في الكيانات العربية. لكن التحدي الدائم أمام أي طرح وحدوي هو موقفه من “اسرائيل” وموقفها منه وموقعها فيه.

واقع الشام اليوم

في ظل هذه الظروف، كان من المتوقع، أن تعمل القيادة الشامية على استراتيجية سورية جديدة، تقوم على التأسيس للتكامل الاقتصادي والاجتماعي، مع العراق ولبنان والأردن، وعلى التوجه شرقًا للتكامل مع الفضاء الآسيوي الناشئ، خصوصًا بعد صعود المشاريع الصينية والروسية والهندية والإيرانية. كل ذلك بعيدًا عن الشعارات القومية العربية الفضفاضة، التي تدمج العروبة بالإسلام، وكأنها تنتظر إعادتها إلى الحظيرة العربية، وإلى التحالف مجددًا مع مصر والسعودية، على الرغم من كل ما حصل، في وقت أصبح التموضع الجيو استراتيجي لهاتين الدولتين، في منطقة أميركية بالكامل، متصالحة مع “إسرائيل” مداها حوض البحر الأحمر، كما ذكرنا سابقًا. وهذا ما ولّد استهجانًا، ليس فقط على المستوى الشعبي محليًا، بل على مستوى الحلفاء أيضًا، في إيران وروسيا والصين.

فهل أن الأطماع التركية في الشمال السوري، والتعاون الاقتصادي، والعلاقات السياسية بين تركيا وروسيا وإيران، قد ولّدت نقزة عند القيادة في الشام، من مسايرة الحلفاء الروس والإيرانيين لتركيا، وجعلتها تلجأ مجددًا، كما حصل في مطلع القرن العشرين، إلى العروبة كرد على محالات التتريك، التي يطبقها أردوغان في المناطق الشمالية، المحتلة من قبل الجيش التركي، أو يسيطر عليها حلفاؤه من التنظيمات المسلحة؟ وحتى لو كان ذلك مشروعًا، فماذا يضير الشام أن تبني أولوياتها الاستراتيجية، على وحدة الهلال الخصيب، كمنطلق لأي تعاون أو توازن، سواء مع العالم العربي، حيث النفوذ الأميركي في حوض البحر الأحمر، والتركي والأوروبي في شمال إفريقيا، أو مع الحليف الإيراني أو الجار التركي المحتلّ، والطامع بالمزيد من الأراضي في الشمال الشامي والعراقي؟ وحتى لو كانت دينامية التكتيك السياسي، تفرض تعزيز دور المؤسسة الدينية السورية، وتموضعها كمرتع للإسلام الوسطي، في مواجهة الإسلام التكفيري الإخواني أو الوهابي، فإن ذلك لا يجوز أن يطغى على التوجه الاستراتيجي، وإعطاء هذه المؤسسة أدوارًا استراتيجية، سواء من خلال التصريح بأن الفكر هو الدين، أو دمج الدولة والدين والمجتمع والقانون، أو من خلال تحميلها مهمة مواجهة الهجمة الثقافية لليبرالية الحديثة، على كامل العالم الإسلامي.


3- إشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام

توزع منظرو القومية العربية على عدة اتجاهات فكرية رئيسية، أهمها: الاتجاه اليساري أو الاشتراكي (الذي تمثل بحركة القوميين العرب، وحزب البعث العربي الاشتراكي، وحزب الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي وغيرهم)، والاتجاه الديني الإسلامي المحمدي (الذي يمثله مفكرون من أمثال: عبد الرحمن الكواكبي، ومحمد عزة دروزة، وعصمت سيف الدولة، وفهمي هويدي، وعبد الوهاب المسيري، ومحمد عابد الجابري، ومحمد سليم العوا، ومنير شفيق وغيرهم)، والاتجاه التقدمي الديمقراطي (الذي يمثله مفكرون كساطع الحصري، خير الدين حسيب، وعزمي بشارة وعدد من المفكرين المسيحيين منذ النهضة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر)، والاتجاه الوسطي (الذي تمثله الحركة الناصرية بأحزابها المختلفة).

وقد تمايزت هذه الاتجاهات في النظر إلى موضوع العلاقة بين العروبة والإسلام، إلى حد تحوّله إلى إشكالية بحاجة للاجتهاد. فبعض المفكرين القوميين من ذوي التوجه الإسلامي، مثل عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عزة دروزة وعصمت سيف الدولة، وحتى أحد مؤسسي البعث ميشيل عفلق، ربطوا العروبة مع الإسلام بوضوح، وأقروا بأن الإسلام كان وسيلة العرب إلى الحضارة والرفعة، وهو روح الأمة على حد تعبير عفلق. ومن أقوال عفلق المعروفة: “في وقت مضى تلخصت في رجل واحد حياة أمته كلها، واليوم يجب أن تصبح كل حياة هذه الأمة في نهضتها الجديدة، تفصيلًا لحياة رجلها العظيم. كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب اليوم محمدًا.”

غير أن الفصل بين العروبة والإسلام، لم يكن فقط دعوة من التيارات اليسارية، التي أرادت تأمين وحدة المجتمع الداخلية، عبر تفادي إقصاء غير المسلمين داخل المجتمع من مظلة العروبة، خاصة التي تركز على الأصل العربي، بل أيضًا من تيارات دينية متطرفة، مثل الوهابيين، الذين يريدون التحرر من العروبة كي تشمل الدعوة الاسلامية كامل امتداد العالم الاسلامي من اندونيسيا الى المغرب، والذين ردّ عليهم الداعية الإسلامي الشيخ يوسف القرضاوي في اجتماع المؤتمر القومي الإسلامي في الدوحة، خلال شهر كانون الأول 2006 قائلًا: “من يريد أن يفصل بين العروبة والإسلام، كمن يريد أن يفصل بين الروح والجسد”. هذا مع أن القرضاوي يعتبر من رواد تيار الإخوان المسلمين، الذي تتهمه المؤسسة الدينية في الشام بأنه يدعو إلى فصل العروبة عن الإسلام، وفصل الدين عن الدولة، بهدف ضرب “الدولة الوطنية العلمانية”! ويؤيد مفكرو الإخوان المسلمين الأساسيين كسيد قطب، الوحدة العربية ويرونها مدخلًا للوحدة الإسلامية. لكنهم عارضوا الميول الاشتراكية لبعض مفكري القومية العربية، وبعض الأحزاب القومية مثل البعث. مع أن تركيا، الدولة الراعية حالياً للإخوان المسلمين، تطمح لقيادة العالم الاسلامي الأوسع من العالم العربي. ومن بين دعاة الفصل بين العروبة والإسلام، كان أحد مؤسسي حزب البعث، زكي الأرسوزي، الذي ركز أكثر على عامل العرق والأصل العربي. وقال بعظمة العرب قبل الإسلام.

بالعودة إلى البدايات، نقرأ عند ابن تيمية (1263 ـ 1328) في كتابه “اقتضاء الصراط المستقيم” تركيز على أفضلية الأصل العربي: “الذي عليه أهل السنة والجماعة، اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم: عبرانييهم وسريانيهم، رومهم وفرسهم، وغيرهم. وأن قريشًا أفضل العرب، وأن بني هاشم أفضل قريش، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل بني هاشم، فهو أفضل الخلق نفسًا، وأفضلهم نسبًا. ويتابع: “سبب هذا الفضل.. ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم”.

ويلخص الشيخ محمد صالح المنجد هذا الرأي، في موقع “الإسلام سؤال وجواب”: “ومن المقرر أيضا في السنة النبوية أن العروبة مفضلة على غيرها من الأجناس، فقد اختار الله سبحانه وتعالى النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم من العرب، وجعل القرآن عربيًا، واتفق أهل السنة والجماعة على أفضلية العروبة على غيرها من الأعراق والأنساب”. وهذا يشبه إلى حد معين، تأكيد الرئيس الأسد في كلمته التي استعرضناها مطولًا، على عروبة العالم العربي، وعروبة الرسول، وعروبة القرآن الكريم، مع أنه انتقد القائلين بتميّز العرق العربي، أو من ربطوا العروبة بالعرق، وأكّد على العروبة الحضارية، مع أن ذلك لا ينسجم مع أفكار الأرسوزي، كما ورد سابقًا. لذلك فإن علاقة العروبة والإسلام ما زالت مسألة شائكة وغير متفق عليها. ومن سخرية القدر أن التصنيف الحالي للحركات الداعية الى دمج العروبة بالإسلام، تتضمن أطراف متناقضة سياسية، مثل البعث في الشام وحركات قومية أو اسلامية اخرى تدور في فلك الدول المعارضة لحكم البعث، مثل الاخوان المسلمين العرب وبعض المعارضين السوريين، ومعظم الحركات التي تستظل الكيانات العربية في حوض البحر الأحمر، المنخرطة في محاربة المشروعين الفارسي والتركي. في المقابل، فإن دعاة الفصل بين العروبة والاسلام، يتوزعون بين التيارات اليسارية والتقدمية التي تدين بالقومية العربية او القوميات الاقليمية الاخرى، وبعض الحركات الاسلامية في العالم العربي التي تطمح للعمل على مدى العالم الاسلامي. إضافة الى الحركات الاسلامية غير العربية التي تنظر الى العرب بفوقية، مثل التيارات الاسلامية في تركيا السنية وايران الشيعية.

الرد على حركة التتريك

يرجع بعضهم بأصل فكرة القومية العربية، إلى محمد علي باشا في مصر، متأثرًا بالفرنسيين بعد حملة نابليون بونابرت على مصر، فصار يطمع في إمبراطورية عربية تنفصل عن الحكم العثماني، مع أنه هو نفسه لم يكن عربياً. وهذا ما دفعه إلى شن حملة على بلاد الشام، قادها ابنه ابراهيم باشا، كما ورد سابقًا، وحكمها من 1833 حتى 1840، عندما أخرجته منها الجيوش الأوروبية. وقد أجرى خلال فترة حكمه عدة إصلاحات، أهمها تأسيس أول مطبعة عربية في بيروت، وإلغاء الأحكام الإسلامية المطبّقة على المسيحيين في الشام، والدعوة إلى مساواتهم بالمسلمين، كما فعل أبوه في مصر، وتأسيس المدارس الوطنية وتشجيع الارساليات الأجنبية. وقد أدى ذلك في ما بعد، إلى انطلاق حركة النهضة الأدبية العربية، وكان من روادها ناصيف اليازجي وابنه ابراهيم، والمعلم بطرس البستاني، الذين يعتبرون من آباء الفكرة القومية في المنطقة، وكانت دعوتهم بشكل أساسي لوحدة قومية في سورية، قائمة على اللغة العربية، بوجه الضغط العثماني التركي. وقد كانت دعواتهم ذات توجه علماني، وتسعى لوحدة قومية ذات طابع عربي في بلاد الشام، وتتمايز عن دعوة عقائد الجامعة العثمانية والرابطة الإسلامية، وأصبحت متناقضة تماما مع حركة التتريك.

وفي هذا الصدد يقول عصمت سيف الدولة في كتابه “عن العروبة والإسلام” الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، سنة 1986، (ص 131): “في مطلع القرن العشرين كانت كل أقطار الوطن العربي تحت سيطرة الاحتلال الأوروبي، ما عدا أقطار المشرق، فقد كانت ما تزال أجزاء منه ضمن دولة الخلافة، ولم تلبث الحركة القومية التركية (الطورانية) ممثلة في قيادتها (جمعية الاتحاد والترقي) أن ألغت فعليا دولة الخلافة، من حيث هي دولة مشتركة بين أمتين العربية والتركية، وحولوها إلى دولة تركية تحكم العرب، وتحاول سلب خصائصهم القومية بتتريكهم، وحيث بدأ الهجوم بدأت المقاومة، وبدأ الدفاع عن القومية العربية، حيث بدأ الهجوم على القومية العربية.”

وقد أسس اليازجي والبستاني وتلامذتهم لاحقًا، عدة جمعيات تحمل بذور الدعوة القومية، منها:

  • جمعية الآداب والفنون: أسستها البعثة التبشيرية الأمريكية عام 1847، ومن قادتها بطرس البستاني وناصيف اليازجي وعدد من المفكرين المسيحيين.
  • الجمعية الشرقية: أسسها اليسوعيون عام 1850، وكان يشرف عليها الأب اليسوعي دبرونر.
  • الجمعية العلمية السورية: أسسها أتباع البعثة الأميركية سنة ،1857 وضمت عددًا من المفكرين من كافة الطوائف، ونالت اعتراف الحكومة بها 1868 م. وكان من قادتها ابراهيم اليازجي.
  • جمعية بيروت السورية: تأسست عام 1875، ويصف نشأتها المؤرخ جورج انطونيوس في كتابه “يقظة العرب”(ص 149): “أول جهد منظم في حركة العرب القومية، قبل ارتقاء عبدالحميد العرش بسنتين – حين ألف خمسة شبان من الذين درسوا في الكلية البروتستنتية السورية -الجامعة الأمريكية لاحقًا- ببيروت جمعية سرية، وكانوا جميعا من النصارى، ولكنهم أدركوا قيمة انضمام المسلمين والدروز إليهم، فاستطاعوا أن يضموا إلى الجمعية نحو اثنين وعشرين شخصًا ينتمون إلى مختلف الطوائف الدينية، ويمثلون الصفوة المختارة المستنيرة في البلد، وكانت الماسونية قد دخلت قبل ذلك بلاد الشام، على صورتها التي عرفتها أوروبا، فاستطاع مؤسسو الجمعية السرية، عن طريق أحد زملائهم أن يستميلوا إليهم المحفل الماسوني، الذي كان قد أنشيء منذ عهد قريب، ويشركوه في أعمالهم”.

وكانت الهوية السورية التي تعبر عنها اللغة العربية، هي العامل المشترك بين معظم هذه الجمعيات. غير أن الضغط العثماني خلال فترة حكم عبد الحميد، دفع الكثير من هؤلاء المفكرين للهجرة إلى مصر، حيث الحكم أكثر تشجيعًا لنمو فكرة القومية، على الرغم من الاحتلال البريطاني. ومن بين المفكرين السوريين المهاجرين الذين نشطوا في مصر في تلك الفترة: ابراهيم اليازجي(أسس جريدة “الضياء”)، فارس نمر وصهره شاهين مكاريوس (صاحب جريدة “المقطم” اليومية ومجلة “المقتطف” الشهرية)، سليم تقلا (مؤسس جريدة “الأهرام” اليومية)، جرجي زيدان (صاحب دار الهلال وله مؤلفات كثيرة)، أديب إسحق (مدير صحيفة “مصر”)، وسليم نقاش (مدير إدارة صحيفة “التجارة”)، روز اليوسف (مؤسسة مجلة “روز اليوسف”)، أحمد فارس الشدياق (أصدر صحيفة “الجوائب”)، والدكتور خليل سعاده والد أنطون سعاده (له الكثير من المؤلفات، ومنجد باللغتين العربية والإنكليزية، وقام بترجمة انجيل برنابا). وارتكزت الدعوة القومية عند هؤلاء، مثل أقرانهم في سورية، على إحياء هوية سورية، والاعتراف باللغة العربية لغةً رسمية، والسعي لحكم ذاتي لبلاد الشام والعراق أو تحريرها بالكامل من الاحتلال العثماني.

نشط عدد من المفكرين المصريين، بالدعوة إلى القومية العربية، ورفضوا الخلافة العثمانية، مع أنهم من علماء الدين، مثل جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده مفتي مصر، ومن تلامذته أحمد لطفي السيد، الذي أصدر صحيفة “الجريدة” وأسس حزب الأمة، الذي دعا إلى القومية المصرية والتاريخ الفرعوني، كما دعا إليها، أيضًا، تلامذة آخرون لمحمد عبده، منهم سعد زغلول. وقاسم أمين، وطه حسين.

ودعا عبد الرحمن الكواكبي، ابن حلب، وصاحب كتابي “أم القرى” و”طبائع الاستبداد”، لمبايعة خليفة عربي، وإلى المساواة بين الأديان لتحقيق التماسك القومي، ويقول في “طبائع الاستبداد”: “دعونا ندبر حياتنا الدنيا، ونجعل الأديان تحكم الآخرة فقط، دعونا نجتمع على كلمة سواء، ألا وهي فلتحيا الأمة، فليحيا الوطن، فلنحيا طلقاء أعزاء”، ويضيف “هذه أمم أوستريا وأمريكا، قد هداها العلم لطرائق الإتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري”. وقد كان للثلاثي الأفغاني وعبده والكواكبي دورًا كبيرًا في ترسيخ فكرة القومية، المتناقضة مع نداء السلطان عبد الحميد: “يا مسلمي العالم اتحدوا”.

كما شهدت باريس حركة عدد من المفكرين القوميين، بينهم نجيب العازوري، وهو سوري أسس سنة 1904 جمعية “عصبة الوطن العربي” في باريس. وكان هدفها المعلن تحرير الشام والعراق من السيطرة التركية، ونشر سنة 1905 كتاب “يقظة الأمة العربية” باللغة الفرنسية، تحدث فيه عن أمة عربية مكونة من مسيحيين ومسلمين. ووجوب إقامة دولة على أسس دستورية وليبرالية. وكانت أعماله تمهيدًا لمؤتمر باريس الذي عقد سنة 1913، وكان عدد المشاركين فيه 24 عضوًا، توزعوا مناصفة بين المسيحيين والمسلمين. بحث المجتمعون شؤون ولايات العرب العثمانية فقط، وطالبوا بجعل اللغة العربية رسمية في البلاد العربية، وتجنبوا المطالبة بالاستقلال، ولعل ذلك يعود إلى عدم إحراج بعض الدول الأوروبية، التي تشجع الحركة القومية وتمدها بالأموال. فاضطرت الحكومة الاتحادية العثمانية، أن تفاوضهم وترضيهم بإدخال ثلاثة وزراء عرب وخمسة من الولاة العرب، في سلك الدولة.

على أثر استلام جمعية الاتحاد والترقي الحكم، وإطاحتها بعبد الحميد وبدء حركة التتريك. تأسس عدد من الجمعيات السرية الأخرى، منها: الجمعية القحطانية في القسطنطينية (1909)، والعربية الفتاة في باريس (1911)، وجمعية العهد في مصر (1913).

رافق ذلك نشاط عدد من الأدباء والمفكرين، في أميركا الشمالية، وفي طليعتهم جبران خليل جبران، الذي نشط في الدفاع عن بلاده، وله العديد من المقالات في الشأن السياسي والقومي، نختار منها رسالة بعث بها إلى إميل جرجي زيدان، رئيس تحرير جريدة الهلال في مصر، عام 1919، جاء فيها: “أنا من القائلين بوحدة سوريا الجغرافية، وباستقلال البلاد تحت حكم نيابي وطني… هناك أمور رئيسية، يجب علينا المطالبة بها بإلحاح واستمرار وهي:

– وحدة سوريا الجغرافية

– الحكم الأهلي النيابي

– التعليم الاجباري

– جعل اللغة العربية الأولية والرسمية في كل آن

إذا كنا لا نريد أن نُمضغ ونُهضم، فعلينا أن نحافظ على صبغتنا السورية، حتى وإن وُضعت سورية تحت رعاية الملائكة”. ويتابع: “أنا أعتقد، أن السوريين يستطيعون أن يفعلوا شيئًا مشكورًا، بعد خروجهم من عهد التلمذة إلى عهد التوليد. ولولا اعتقادي هذا لفضلت الانضمام الكلي إلى أية دولة قوية. بإمكان الغربيين مساعدتنا علميًا واقتصاديًا وزراعيًا، ولكن ليس بإمكانهم أن يعطونا الاستقلال المعنوي، وبدون هذا، لن نصير أمة حية. والاستقلال صفة وضعية في الإنسان، وهي موجودة في السوري، ولكنها لم تزل هاجعة، فعلينا إيقاظها”.

أولوية القومية أم الدين؟

نتج عن كل ذلك الحراك، أن العرب عندما قاتلوا مع البريطانيين ضد الخلافة العثمانية، كانوا يعطون أولوية للقومية على الدين، كما قال لورانس العرب، ضابط المخابرات البريطاني، الذي كان يقاتل مع فيصل خلال “الثورة العربية” (مجلة المجتمع العدد 433، السنة 20، شباط 1979): “وأخذت أفكر طيلة الطريق إلى سوريا، وأتساءل هل تتغلب القومية ذات يوم على النزعة الدينية؟ وهل يغلب الاعتقاد الوطني المعتقدات الدينية؟ وبمعنى أوضح هل تحل المثل العليا السياسية مكان الوحي والإلهام، وتستبدل سوريا مثلها الأعلى الديني بمثلها الأعلى الوطني؟”

ترافقت هذه المراهنة مع خيبة كبيرة، تجلت في إخلال بريطانيا بوعودها للشريف الحسين، بإقامة دولة عربية واحدة في الجزيرة والهلال الخصيب. فطُرد الحسين من الحجاز، وقسمت سورية الطبيعية بين الانتدابين البريطاني والفرنسي، مع جوائز ترضية لأبناء الحسين فيصل وعبدالله في العراق وشرق الأردن، كما مر سابقاً. وترافق ذلك مع نهوض القومية التركية العلمانية بقيادة أتاتورك، الذي قضى على الخلافة العثمانية الإسلامية سنة 1924. هذه العوامل أدت إلى التشكيك بجدوى الفصل بين القومية والدين. وتعزز هذا التشكيك، بفعل عدم وضوح طروحات القومية العربية، وربط معظم مفكريها للعروبة بالإسلام، والتغني بالأصل العربي، والتاريخ المجيد للعروبة من خلال الدولة الإسلامية، ونتيجة استفحال سياسات الانتدابين الفرنسي والبريطاني في تقديم المصالح الاستعمارية، على مهمة تهيئة الشعب للاستقلال والحكم، وفي ترسيخ الانقسامات المذهبية، وفي دعم الحركة الصهيونية، بحجة أن تحقيق وعد بلفور هو من مهام الانتداب البريطاني. كما ساعد تنافس وتناحر الحكام العرب، في بيئات العالم العربي المجزأة الى دويلات وكيانات، على إضعاف إيمان الشعوب بإمكانية النهوض، في ظل الدعوة الهيولية الرومنسية للقومية العربية. ونتج عن ذلك عودة العديد من مفكري القومية العربية، لربط العروبة بالإسلام، ومن جهة أخرى نشوء حركات إسلامية ضد منطق القومية العربية، متهمة إياها بالكفر والعلمانية ومعاداة الدين، وتبني النظرات الليبرالية المتفلتة، والاشتراكية الملحدة.

اعتبر عدد من المفكرين، منهم العراقي عزيز السيد جاسم، “أن رسالة الفكر القومي العربي، هي مواصلة النمو والتطور، والحماية من الركود والتخلف والتراجع”. (نحو تحريفية أوسع للفكر القومي العربي. مختارات من كتابات المفكر الراحل عزيز السيد جاسم. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت. 2005. ص 255). بينما خلط آخرون بين العروبة والإسلام، إلى حد ظهور مواقف واجتهادات مترجرجة، حول الخيار بين أولوية الوحدة العربية أو الوحدة الإسلامية، حيث يقول عصمت سيف الدول في كتابه “عن العروبة والإسلام” الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت سنة 1986: “لا بد، إذًا، من الوحدة، العربية أو الإسلامية، ليستطيع الشعب العربي أن يتحرر ويتطور، وليستطيع أن يحافظ على حريته وتطوره، في غابة الدول العملاقة. وإذا ما كانت إحدى الوحدتين تناقض الأخرى، فعلى الشعب العربي أن يختار منهما الوحدة، التي يكون بها وفيها، أكثر مقدرة على التحرر والتطور”. ويتابع منتقدًا دعاة الفصل بين العروبة والإسلام: “في الوطن العربي طائفتان اختلفتا فاتفقتا. طائفة تناهض الإسلام بالعروبة وطائفة تناهض العروبة بالإسلام. فهما مختلفتان. وتجهل كلتاهما العروبة والإسلام كليهما فهما متفقتان. وإنهما لتثيران في الوطن العربي عاصفة غبراء من الجدل، تكاد تضل الشعب العربي المسلم عن سبيله القويم. وإنهما لتحرضان الشباب العربي على معارك نكراء تكاد تلهيه عن معركة تحرير أمته.”

اعتقد بعض مفكري القومية العربية، أن للعرب الفضل الأكبر في الحضارة الإسلامية، كما ورد سابقاً. واعتقدوا أن الإسلام السياسي غير العربي، ساهم في التقهقر والتخلف، ورأوا وجوب إحياء التراث العربي كمقدمة لمشروع النهضة. وليس مصادفة أن أول مهمة للإحياء العربي، كانت متجهة إلى إحياء اللغة العربية وآدابها. لذلك نجد أن الفكر القومي العربي غالبًا ما ركز على التراث اللغوي، وبالتالي على المرجع اللغوي الأساس، والحاضن للثقافة العربية، أي القرآن الكريم. كما كانت يقظة العرب القومية في البداية، كمحاولة لإحياء الإسلام السياسي، وليس للانفصال عنه. ظلت هذه الملابسة قائمة حتى الآن. بل إن العرب لم يفكروا في الانفصال عن الدولة العثمانية، ولم يقطعوا حبل اتصالهم الديني بها، إلا في فترة متأخرة مع انهيار الدولة العثمانية، وسيطرة الاستعمار الأوروبي. كان الاهتمام بلغة الضاد هو الأول لاستنهاض العروبة، كما كانت العودة إلى نقاوة الإسلام الأول إيذانًا بالحديث عن الدور العربي في الإسلام.

في المقابل، تأثر بعض مفكري القومية العربية، في مطلع القرن العشرين، بالفكر القومي الغربي (الأوروبي) بصيغته النظرية، التي تدعو إلى النهضة والإصلاح، بالتوازي مع الثورة العلمية والصناعية الأوروبية، التي لم تكن موجودة في العالم العربي. وكانت فكرة الدولة القومية في أوروبا رافعة لمشروع بناء دولة حديثة، مرتبطة بتطور العلوم والاختراعات والاقتصاد، وحق الأسواق القومية بالحدود والحماية، ومقاومة الهيمنة السياسية للكنيسة والإقطاع، كون الكنيسة هي مشروع عابر للقوميات، والإقطاع بصفته عنصر تجزئة وتخلف، في وجه السوق القومي واحتياجاته للتوسع والنمو.

لكن واقع العالم العربي كان مختلفًا عن الواقع الأوروبي. فلا نهضة علمية أو صناعية حدثت فيه، ولا الوعي القومي انتشر، بسبب النسب العالية للأمية، وغياب المناهج الوطنية وحركات التحرر القومية، ولا الفصل بين الدين والدولة، أو حتى العلمنة ممكنة، خارج إطار النخب القليلة، بسبب تجهيل التاريخ القومي، وربط الأمجاد التاريخية حصًرا بتاريخ الدولة الإسلامية العربية في بداياتها، يوم كان العنصر العربي حاكمًا، وقبل تداخل العناصر غير العربية من فارسية ومملوكية وتركية عثمانية وغيرها.

كما اصطدمت القومية العربية منذ انطلاقها بتيارات قومية معارضة، مثل القومية المصرية أو السورية، أو الدعوات القومية العرقية أو المذهبية، مثل الكردية في كل من العراق سوريا، والأمازيغية في دول المغرب، والمسيحية في لبنان وشمال شرق الشام وشمال العراق، والزنجية في جنوب السودان وموريتانيا. كما اصطدمت بالدعوات المعادية للقومية بكل أشكالها مثل الشيوعية العالمية، حيث تقول الرؤية الماركسية، أن الشيوعية هي مرحلة حتمية في تاريخ البشرية، تأتي بعد مرحلة الاشتراكية التي تقوم على أنقاض المرحلة اللا قومية. وبرز هذا التناقض والخلاف بشكل كبير بين الشيوعيين والقوميين، في مراحل لاحقة، خلال عهد حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق والشام، وحكم جمال عبد الناصر في مصر، برغم أن عددًاَ من الاحزاب الشيوعية في الدول العربية عادت واعتبرت أن القومية والعربية والصراع ضد الصهيونية هو حزب من نضالها الأممي. فيما حصل تقارب فكري أيضًا بين بعض أحزاب القومية العربية مع الفكر الماركسي بسبب تبنيها للمذهب الاقتصادي الاشتراكي وتحالفها مع الاتحاد السوفييتي ومع المعسكر الشرقي، خاصة بعد هزيمة 1967.

وقد شهدت مرحلة الثلاثينيات والاربعينيات، تنافسًا شديدًا بين دعاة القومية العربية، على تنوعهم، وبين دعاة القوميات الأخرى، ضمن البوتقة العربية، وعلى الاخص القومية السورية في سورية الطبيعية، والقومية المصرية في مصر. وكانت القومية السورية التي طرحها أنطون سعاده بشكل علمي، تتفوق من حيث التماسك والتنظيم والمنهجية العلمية، على الدعوات القومية العربية الفضفاضة، والمتناقضة المرتكزات أحيانًا، مع أن الأخيرة كانت أقرب إلى المنطق الشعبي السائد، والرازح تحت ثقل الثقافة الدينية الإقطاعية القبلية القديمة. فكانت الدعوة إلى القومية العربية المدموجة مع الإسلام، والتي تحلم بأمة كبيرة من المحيط إلى الخليج، تدغدغ مشاعر العامة من أبناء الشعوب العربية، أكثر من تلك التي ترتكز إلى فلسفة اجتماعية أخلاقية مثالية، وتدعو إلى نظام صارم والتزام كلّي، ودرس معمق لعلوم العصر وتخصصات غير موجودة في كل مجالات العلوم، وإلى فصل الدين عن الدولة، وبناء إنسان جديد على منظومة قيم جديدة عصرية، وعلى عقلية أخلاقية جديدة، ترتكز إلى الحق والحرية والواجب والنظام، وإلى إدخال البلاد إلى عصر التمدن والتطور. فكان دخول المواطن العادي إلى الحركة السورية القومية الاجتماعية، أكثر تعقيدًا وأكثر تطلّبًا، من سيره في خط جماهيري، أقرب إلى معتقداته التي كانت سائدة في ظل الحكم العثماني، على مدى قرون عديدة. ومع أن الدعوات إلى القومية المصرية كانت سائدة، وكان لها روادها ومفكريها، لكنها لم تتبلور في حركة منظمة حديثة، على الطريقة الأوروبية المعاصرة وقتها، كما حصل في سورية.

بقيت الحال كذلك، فيما المنطقة ترزح تحت الانتدابات والاحتلالات الأوروبية، وبدأت حركات الاستقلال الكيانية تؤتي ثمارها، بعد الحرب العالمية الثانية. لكن فرح الاستقلال بدّده تخلّف وضعف الدول الناشئة، وسيطرة بقايا الاقطاع السياسي الطائفي على الحكم، وتغوله في الفساد، وكانت الطامة الكبرى نكبة فلسطين. وبعد الهدنة والتقاط الأنفاس، بدأ عصر الانقلابات العسكرية من الشام إلى مصر. وجاءت بعد ذلك أزمة السويس، التي كانت مفصلية في تحول مزاج الشارع المصري نحو القومية العربية، التي استهوت عبد الناصر بعد أن سمع هدير الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج. فانتعشت مجددًا الحركات القومية العربية، وأدى الحماس المتزايد إلى الوحدة الاندماجية الارتجالية بين مصر والشام، والتي لم تعمّر أكثر من سنوات قليلة. وشكل فشل الوحدة انتكاسة كبيرة لفكرة القومية العربية، وجاءت نكسة حرب الخامس من حزيران 1967، لتكمل على أحلام العروبيين. مما أدى إلى تراجع المد الناصري، وموت عبد الناصر في 1970 إثر خلافات عربية لا تحصى. ومع كل محاولات البعث بقيادة حافظ الأسد في الشام وصدام حسين في العراق، وراثة تألق المدّ القومي العربي للناصرية، ومحاولة تطوير كياناتهم ضمن المتاح، إلا أن خلافات الكيانين وعجزهما على مدى 30 عامًا، من إقامة إي وحدة أو تقارب بينهما، لا بل صراعهما الدائم، والانخراط في حروب ومحاور عربية وإقليمية متناقضة، ضرب كل إمكانية لتحقيق شعارات البعث، بالوحدة والحرية والاشتراكية، مع أن الكيانين ينتميان إلى البيئة الطبيعية والتاريخية نفسها، ووحدتهما وتقاربهما، أسهل بكثير من الوحدات الفضفاضة، التي تتطلع إلى كامل العالم العربي، من المحيط إلى الخليج. كما نشأت خلافات فكرية بينهما كالخلاف حول أولوية تحقيق الوحدة أم الاشتراكية أولًا!

وقد اعتمدت معظم نظريات القومية العربية المتنوعة، على تحديد الأمة بناء على عناصر الدين واللغة بشكل أساسي، وبعضها على الأصل أو العرق العربي، وأهملت عنصر الأرض والجغرافيا والبيئة الطبيعية. كما تبنى معظمها، خاصة في الدول التي حكمتها الانقلابات العسكرية، النظرية الاشتراكية كمذهب اقتصادي، وركزت على مسائل ملكية وسائل الانتاج وصراع الطبقات أحياناً، وأهملت مسألة الدورة الحياتية الاقتصادية الاجتماعية ضمن كامل بيئاتها الطبيعية. وهذا ما عزز فكرة فصل الأمة أو الشعب عن الأرض، وصار “العربي” أو “المسلم” يعتبر نفسه ما زال جزءاً من الأمة حتى لو رحل عن أرضه وهُجّر، كما حصل في فلسطين، أو هاجر الى الغرب، كما فعل ملايين من السوريين والمصريين والعرب. فلم تستطع هذه النظريات أن تحصن الشعب في الأرض والوطن. فيما اعتبرت مدارس فكرية أخرى كالقومية السورية الاجتماعية، أن “الأمة جماعة من البشر تحيا حياة موحدة المصالح، موحدة المصير، موحدة العوامل النفسية – المادية في قطر معين يكسبها تفاعلها معه، في مجرى التطور، خصائص ومزايا تميزها عن غيرها من الجماعات”. وأن “الأمة ليس لها كيان إلا في وطنها” (أنطون سعاده، الأعمال الكاملة 1، 2001، صفحة 457).

في هذا الوقت، تلقت الحركة السورية القومية عدة ضربات متتالية، من إعدام زعيمها أنطون سعاده في 1949، إلى اقتلاعها من الشام إثر اتهامها باغتيال العقيد عدنان المالكي في 1955، مما أدى إلى حصرها في لبنان، حيث شاركت في حرب 1958 إلى جانب الجيش اللبناني، لكنها استبعدت من أي مشاركة سياسية بعد انتخاب شهاب، والتضييق عليها بطلب من عبد الناصر ودولة الوحدة، مما دفعها إلى القيام بمحاولة انقلابية فاشلة في 1961، زجت بقياداتها في السجن طيلة مرحلة الستينيات. وعند خروج القيادة من الأسر، كان العالم قد تغيّر، وبدأ عصر الثورات اليسارية في معظم أنحاء العالم النامي. وصعدت الثورة الفلسطينية، على أنقاض سقوط الرهان على الأنظمة العسكرية القومية العربية وهزيمة 1967، هذه الأنظمة التي اتسمت بالقمع والتخلف وعدم التنسيق والتبعية. وقد تبنّت مرحلة حكم حافظ الأسد في الشام، منذ السبعينيات، استراتيجية واقعية تعطي الأولية لبلاد الشام، من خلال محاولة امتلاك أوراق التفاوض اللبنانية والفلسطينية، وتعزيز العلاقة مع الأردن، حتى في ظل استحكام الخلاف العدائي مع عراق صدام حسين. مما أدى إلى تقارب بين الحركة السورية القومية الاجتماعية والشام في مراحل لاحقة، على الرغم المحاولات المتكررة من النظام الشامي للسيطرة على قرار الحركة.

وفي مرحلة السبعينيات وما بعدها، وبعد نكسة 1967، ومن ثم خروج مصر من الجامعة العربية إبان اتفاقية كامب ديفيد، تبنّت معظم الأنظمة العربية شعارات جديدة، تمجد الانتماء الكياني أو القطري وتضعه في مقدمة الأولويات. ازداد هذا الشعار بشكل بارز، بعد الفشل الذريع الذي منيت به الأنظمة، على صعد التنمية والاقتصاد وزيادة البطالة، ومشاكل التعليم والصحة، مما عزز مشاعر التفرقة بين كيان وآخر. وأصبحت الشعارات التي تمجد الانفصال والنزعة الكيانية مثل: الأردن أولًا ولبنان أولًا، والسعودية فوق الجميع، الخ عادية ومألوفة. ولكن هذا التوجه الانغلاقي الانعزالي الضيق، لم يجلب سوى المصائب على المستوى الكياني، والمستوى القومي، فلم تستطع الأنظمة حل مشاكلها الداخلية، أو الحفاظ على أمنها، أو تحقيق النمو والازدهار لشعبها. وعانت دول مثل مصر والجزائر والعراق ولبنان واليمن والشام، من عنف دموي أو انقسام طائفي، وصل أحيانًا حدَّ الحروب الأهلية، ولم تستطع معظم الكيانات في العالم العربي تخفيض معدلات البطالة العالية، أو الفقر أو الجهل أو الأمية.

تحديات القرن الحادي والعشرين

أدى تراجع المشروع القومي إذًا، إلى صعود الكيانية أو القطرية والمشاريع الوطنية، كبديل للمشروع الوحدوي العربي. كما أدى سقوط الاتحاد السوفياتي إلى خسارة حليف استراتيجي للأنظمة العسكرية العربية، التي ترفع شعارات القومية العربية والاشتراكية. وبعد عقدين أو أكثر من الانكفاء الكياني والتناحر الداخلي والبيني، ظهر فشل المشاريع الكيانية في تحقيق التنمية والحرية والسيادة، بل ازدادت الخلافات ونشبت حروب أهلية، داخل الكيان الواحد، وحروب بين الكيانات. كما أن دخول العالم إلى عصر المعرفة، وعولمة الاقتصاد والاتصالات، واستفراد أميركا لفترة بقيادة العالم، وتهديدها للأنظمة بالحروب الاستباقية على الإرهاب، تحديدًا بعد تفجيرات أيلول 2001 في أميركا، والهجمة الثقافية التي ترافقت مع تطور الإعلام الاجتماعي والاتصالات، كل ذلك أدى إلى المزيد من تعرية الأنظمة العربية، سواء المطبّعة منها مع العدو والسائرة في ركاب الغرب، أو الممانعة والمشاكسة، وأظهرت ضعفها وعجزها، عن القيام بمستلزمات النهوض ومواكبة العصر. وقد دفعها ذلك إلى المزيد من الحذر والقمع، في ظل استشراء الفساد على أعلى مستوى، وتحوّل معظم أنظمتها الاقتصادية من الاشتراكية إلى الرأسمالية المتوحشة، التي أدت إلى تمركز الثروة في أيدي القلّة الحاكمة وحاشيتها. كل ذلك أدى بالنخب في الدول العربية المتعددة، للمزيد من الارتماء في أحضان الغرب، الذي أصبح نموذجًا يحتذى، للتنمية والمواطنية والديمقراطية، بنظرهم، كما سوّق لهم إعلامه ودبلوماسيّوه.

أدت الهزائم ومعاناة الناس وفشل الأنظمة، إلى ظهور تيارات ليبرالية جديدة في الدول العربية، تمثلها الجمعيات غير الحكومية، التي تكفر بكل ما هو قومي، وتعتبر أن الفكر القومي انقرض منذ الحرب العالمية الثانية، وعلى الخصوص، بعد انتهاء الحرب الباردة، وبداية عصر المعرفة، متأثرين بالدعاية الأميركية الغربية، التي تقول بأفول عصر القوميات، وبدء عصر العولمة الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية، التي ما هي سوى تسويق لأنماط الحياة الغربية ومفاهيمها للتنمية والمواطنة والديمقراطية، وصراع الحضارات، والنظرة الرأسمالية المادية الحتمية إلى الحياة والمستقبل.

وقام بعض مفكري القومية العربية، المتأثرين بهذه التطورات، بمحاولة تطوير طروحاتهم، كما يعتقدون، من خلال الإبقاء على الدعوة للوحدة، في مواجهة التجزئة الكيانية المصطنعة التي “بدأها الاستعمار واستكملتها أنظمة الحكم القمعية، لتقوية الشعور الكياني، وترسيخ واقع التجزئة، والحفاظ على مكتسبات وعروش اغتصبوها، وكراسٍ لم يستحقوها”، على حد وصف بعض منهم. وطرحوا هذه الوحدة على أساس وحدة اللغة، والمشاعر والثقافة والتاريخ والجغرافيا، وأضافوا إليها التحديات المشتركة (حال الاستعمار والتخلف والجهل). وأضيفت في الأدبيات القومية الأخيرة، مسألتا المستقبل المشترك والمنافع المشتركة (التكامل الاقتصادي) كدوافع إضافية لنشوء الوحدة العربية.

تجديد “المشروع النهضوي العربي”

ويعتبر “المشروع النهضوي العربي”، الذي أعده مركز دراسات الوحدة العربية، نموذجًا لهذه الطروحات (انطلاقًا من أوراق عمل قُدمت إلى ندوة «نحو مشروع حضاري نهضوي عربي» نظمها المركز في فاس في المغرب عام 2001)، يهدف إلى إرساء أساس تقوم عليه الوحدة العربية، في ظل الفشل المطبق للمشاريع القطرية العربية، ومشاريع الوحدة الاندماجية الفضفاضة. ويقوم المشروع على ستة عناصر:

  • الوحدة العربية في مواجهة التجزئة
  • الديمقراطية في مواجهة الاستبداد
  • التنمية المستقلة في مواجهة النمو المشوه والتبعية
  • العدالة الاجتماعية في مواجهة الاستغلال
  • الاستقلال الوطني والقومي، في مواجهة الهيمنة الأجنبية، والمشروع الصهيوني
  • الأصالة والتجدد الحضاري في مواجهة التغريب.

يعتبر أصحاب هذا الطرح، أنه أكثر موائمة لواقع الدول العربية الحالي، ولمخاوف المواطنين من استبدال النظام القمعي الكياني (سواء كان طائفيًا أو فئويًا أو عشائريًا أو إقليميًا)، بنظام قمعي قومي أكثر قوة وشرعية. من شأن هذا الطرح الجديد، أن يجذب فئات متخوفة، أو معارضة تقليدية للمشروع القومي، مثل الأقليات العرقية والدينية. وقد دخل الغرب وبعض الدول الإقليمية، واستفادت من هذه الطروحات، التي اسقطت محرمات انتقاد الأنظمة القائمة. واستغل بعضهم الواقع الطائفي، وحرمان حركات الإسلام السياسي في المنطقة، من الوصول إلى السلطة لعقود طويلة، فطرح أن الإسلام هو الحل. مما أفسح المجال لتكوين مزيج، من الحركات الإسلامية والليبرالية المدعومة من الغرب، وبعض منظري القومية العربية، الذين يتبنون طروحات الديمقراطية والتنمية والمواطنة والحرية، واستفاد هذا المزيج من أطماع بعض الدول الإقليمية مثل تركيا، لقيادة العالم الإسلامي السني، ومن التطور التكنولوجي والإعلامي الهائل، والتمويل الدولي والخليجي، والتدريب والتخطيط الغربيين، وقاموا بتحركات اسموها “ثورات الربيع العربي”، لإسقاط الأنظمة القائمة، مع الوعود بالازدهار والسلام والتنمية، ومواكبة العصر، وإعطاء دور للشباب العربي المهمش، والمبعد عن دوائر القرار في الأنظمة القائمة.

أوهام “الربيع العربي”

يوم بدأت التحركات في عدد من الدول العربية، اكتشف الليبراليون والقوميون العرب والغرب، أن الحركات الأكثر تنظيمًا والأقدر للوصول إلى السلطة، هي التيارات الإسلامية على أنواعها. لذا تمكنت من الوصول إلى السلطة في دول عربية عدة، أبرزها تونس ومصر وليبيا. إلا أنها فشلت فشلاً ذريعًا، أين منه فشل الأنظمة التي استبدلتها. كما أن صمود الدولة في الشام، وتورط الغرب بالمطالبة المبكرة برحيل النظام، أدى إلى تغاضي كل الأطراف عن الاستعانة بتنظيمات ومجموعات يصنفها الغرب إرهابية، فيما ترعاها تركيا وعدد من الدول العربية، من أجل إسقاط النظام. فأصبحت الحرب السورية هي مغناطيس جاذب لكل المجموعات التكفيرية والإرهابية في العالم، مدعومة من مجموعة تفوق الثمانين دولة. وهذا ما فاقم العنف الطائفي، الذي ترافق مع استماتة النظام في الدفاع عن مواقعه، والاستعانة بحلفائه في إيران وروسيا والدول المحيطة، مما أدى إلى احتقان طائفي، وعمليات إجرامية لم يشهدها العالم من قبل.

بيد أن عددًا من مفكري القومية العربية، أمثال عزمي بشارة وبعض قادة المعارضة السورية، صوّروا ما حصل بأنه حركات تحرر وطنية، وأعادوا إحياء طروحات الوحدة العربية على قواعد التكامل الاقتصادي، والحريات والتنمية والمواطنة والديمقراطية. فجاءت طروحاتهم مشابهة لشعارات عفلق في الوحدة والحرية والاشتراكية. واعتبروا أن الخلل ليس في هذه الشعارات، بل في الممارسات الخاطئة التي مارستها وتمارسها، قوى وعناصر سياسية وأيديولوجية باسم القومية العربية، من دون احترام الممارسة الديمقراطية وحقوق الإنسان.

من الواضح أن هذه الطروحات الجديدة، تحتاج إلى الكثير من المصداقية والجهد، كي يؤمن بها جيل الشباب في الشعوب العربية، بعد كل إخفاقات الأنظمة القديمة، التي استظلت القومية العربية، ولم تنتج سوى القمع والتخلف والفساد والتبعية والتجزئة والجهل، وبعد كل التناقضات التي حملها واقع حروب ما سمي بالربيع العربي، في الشام واليمن وليبيا، على وجه الخصوص، حيث كانت اليد العليا هي للتنظيمات التكفيرية والإرهابية، الممولة من الغرب الذي يصنفها إرهابية، وتصنفه هي، نظرياً، بالشر المطلق. في مصر وتونس تم الانقلاب على نتائج “الربيع العربي”، وتسلمت السلطة، من جديد، أنظمة شبيهة بنظامي مبارك وبن علي، مع بعض التحسينات الشكلية.

تزامن ذلك مع تنامي التيار الإسلامي في تركيا، الذي اعتبر أن أميركا خذلته في منتصف طريق “الربيع العربي”، من خلال تبديل الأحصنة، وأن أوروبا خذلته بسبب رفضها انضمامه إلى الاتحاد الأوروبي. فعاد يبحث عن الأحلام العثمانية القديمة، في سورية الطبيعية والعالم العربي، والقوقاز ووسط آسيا.

كما أن دول حوض البحر الأحمر، الذين سمّتهم أميركا بالناتو العربي، والذين يهرولون اليوم إلى التطبيع مع العدو “الإسرائيلي”، بحجة مواجهة النفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة، تطرح أيضًا كتلة جيوسياسية جديدة، لها منظروها، لتسويق قومية عربية جديدة بوجه المد الفارسي، متصالحة مع العدو اليهودي وسائرة في ركاب الغرب، مع أن طروحات المواطنة والديمقراطية والحريات، قد لا تنطبق على الكثير منها. ولكنها تشكل القوة الأساسية المسيطرة على الجامعة العربية، مع العلم أن تأثيرها يبقى محدودًا، على معظم كيانات الهلال الخصيب، حتى إشعار آخر.

تحديات معاصرة

بناء عليه، نفهم التحديات التي تواجهها الشام، في المرحلة المقبلة، على عدة مستويات، ولكل منها أتباعها في الداخل:

  • فمن جهة هناك من يقارع نظرتها القومية العربية، ويصفها أنها “قديمة، متخلفة، تسلطية، قمعية، دموية، مذهبية، تابعة لإيران أو روسيا، وبالتالي كافرة، أو متناقضة مع الإسلام السني الأكثري”، وبالتالي غير قابلة للحياة.
  • ومن جهة أخرى هناك من يطرح فصل الإسلام عن العروبة، ويدعو إلى حكم إسلامي متطور، ينسج على المنوال التركي، على قاعدة نظرة دونية إلى الشعوب العربية، إلى حد مطالبة الكثير من النازحين، وسكان بعض المناطق الشمالية، تفضيل الانضمام إلى الدولة التركية، على العودة إلى كنف النظام القائم في الشام.
  • في المقابل، تطرح دول الناتو العربي ومنظروها، القومية العربية كمشروع حضاري معاصر، لكنه خاضع لمقولات الصراع المذهبي السني – الشيعي والصراع القومي العربي – الفارسي، الذي تسوّق له أميركا وحلفائها. وتُتّهم الشام بأنها تتموضع في المعسكر المقابل لهذا المعسكر القومي العربي.
  • وهناك الطرح السوري القومي الاجتماعي، الذي يعتبر أن ربط العروبة بالإسلام، يضعف القدرة على تمتين الوحدة الداخلية للمجتمع المتنوع. وينتقد الرؤية الفضفاضة للعالم العربي برغم الواقع المتنوع والمتمايز للبيئات الجغرافية والاجتماعية العربية الأربع، والحقائق الجيوسياسية الناشئة، التي تضرب الكثير من مسلمات الفكر القومي العربي. ويدعو إلى التركيز على كيانات سورية الطبيعية، وطرح العروبة الواقعية، عروبة الجبهة العربية، عوض الرهانات الوهمية على وحدة قومية عربية شاملة. وينتقد غياب منظومة قيمية وعقلية أخلاقية جديدة، تكون ضامنًا ودافعًا للنهوض، عوض ترك هذا الجانب إلى الأديان والمذاهب.
  • وهناك العودة إلى الطرح الكياني أو ما دون الكياني، مع افكار ليبرالية متنوعة، تدعو إلى التحرر والتقدم والنمو.
  • كما أن مسائل إعادة ملايين النازحين، وإعادة الإعمار، يربطها الغرب بحل سياسي يضرب الكثير من مكتسبات النظام الحالي.

أمام هذه التحديات، لا بد من صياغة استراتيجية جديدة، قادرة على المواجهة والصمود والتقدم. وهذا بحاجة إلى إعادة نظر بالكثير من المنطلقات الفكرية، والتقدم نحو نظرة جديدة، وطروحات حديثة راسخة، عوض التراجع عن ما كان سائدًا، إلى طروحات أكثر رجعية، بحجة المواجهة والتقدم، وتحصين المجتمع، وصوت المعركة مجددًا.