الحوكمة الشاملة في النهضة
الحوكمة الشاملة في النهضة 1 من 7
- ما هي الحوكمة؟
- الحوكمة الشاملة
- أبعاد وسمات الحوكمة
- أزمة المؤسسات التي تفتقر الى الحوكمة
الحوكمة الشاملة في النهضة 2 من 7
- دستور الحزب
- المديرية: هيئة معينة تدير ولجنة استشارية تقدم المشورة وتراقب
الحوكمة الشاملة في النهضة 3 من 7
- المنفذية: هيئة معينة تدير ومجلس يقدم المشورة ويدرس المشاريع ويقرر الضرائب ويقر الموازنة ويراقب ويقيّم
الحوكمة الشاملة في النهضة 4 من 7
- مؤسسة العمد ومجلسهم: مجلس تنفيذي لمعاونة الزعيم
- سلطة الزعامة: مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية
- مستوى إضافي من الحوكمة
الحوكمة الشاملة في النهضة 5 من 7
- المجلس الأعلى: سلطة تشريع وتقرير
- خلاصة البحث الدستوري: سعادة رائد الحوكمة قبل تعريفها بسبعة عقود
- ماذا بعد غياب الزعيم؟
الحوكمة الشاملة في النهضة 6 من 7
- ماذا بعد غياب الزعيم؟ -تابع-
- رتبة الأمانة
الحوكمة الشاملة في النهضة 7 من 7
- من يراقب ويحاسب المجلس الأعلى؟
- الحوكمة بعد غياب الزعيم
الحوكمة الشاملة في النهضة 1 من 7
- ما هي الحوكمة؟
- الحوكمة الشاملة
- أبعاد وسمات الحوكمة
- أزمة المؤسسات التي تفتقر الى الحوكمة
ما هي الحوكمة؟
تعرّف الحوكمة (Governance) بأنها أسلوب ممارسة سلطات الإدارة الرشيدة. وهي احد العوامل الرئيسة المؤثرة على تحسين أداء المؤسسات، وعلى الإنتاجية والرضى الوظيفي والولاء التنظيمي.
كما أنها مجموعة من الإجراءات والعمليات التي يتم من خلالها توجيه المؤسسات والتحكم بها، من خلال تحديد وتوزيع الحقوق والمسؤوليات على مختلف السلطات والأطراف في المؤسسة، مما يسهم بإرساء قواعد واجراءات صناعة القرار فيها.
ويعتمد التطبيق الجيد للحوكمة على تحقيق المستوى الأمثل من الفحص والضبط والرقابة المتوازنة وتفعيل خطوط التواصل، وتعزيز ثقافة المسؤولية والمساءلة من خلال وضع وتطوير نظام للقياس والتقييم. ويؤدي الى تقوية المؤسسة على المدى البعيد، وتحديد المسؤول عن التصرفات الادارية والأخلاقية والمالية غير الصحيحة، وتحميل المسؤولية لكل من الحق ضرراً بالمصلحة العامة. ويهدف بالتالي إلى تحقيق الجودة والتميز فى الأداء الاداري من خلال اختيار الأساليب المناسبة والفعالة لتحقيق خطط وأهداف اي عمل منظم، والإشراف على التنفيذ وتحديد المخاطر وتفادي الأخطاء وتصحيحها إذا وقعت.
والحوكمة مفهوم حديث، ظهرت الحاجة إليه في العديد من الاقتصاديات المتقدمة والناشئة خصوصاً في أعقاب الانهيارات الاقتصادية والأزمات المالية التي شهدتها العقود القليلة الماضية، في عدد من دول شرق آسيا وأمريكا اللاتينية وروسيا في عقد التسعينات من القرن العشرين، وكذلك ما شهده الاقتصاد الأمريكي من انهيارات مالية ومحاسبية خلال عام 2002. أما في القطاع العام، فقد ظهر مفهوم الحوكمة بشكل تطبيقي في نقاشات قادتها وزارة المالية الهولندية في عام 2000. وتطبق الحوكمة في القطاع العام على محاور عدة، أبرزها معالجة حالات تَعارُض المصالح، وانعدام وتقليل المخاطر والخسائر المتوقعة بكافة أوجهها، وقياس المسؤوليات، وتقييم الأداء المشترك بين الدوائر الحكومية، والشفافية وحق الوصول الى المعلومات، وإفساح المجال للرأي العام للمشاركة في تقييم الأداء وصناعة القرار على المستوى المحلي أو المركزي. (إبراهيم العيسوي، التنمية في عالم متغير: دراسة في مفهوم التنمية ومؤشـراتها. القـاهرة: دار الشـروق، 2003، ص: 36-37.)
و تعود اهمية الحوكمة، في مؤسسات القطاع العام، إلى أهمية تأسيس و تفعيل دور هيئات الرقابة والمراجعة، والتأكد من استقلالية هذه الهيئات، وعدم ارتباطها تنظيمياً بالإدارات التنفيذية المباشرة، كما هو معمول به حالياً في أغلب الدول، حتى لا تصير الإدارة عرضة لتضارب المصالح.
فالحوكمة إذاً هي نموذج إداري جديد، يهدف الى توزيع الصلاحيات في الهياكل الادارية، بهدف اعتماد الادارة الرشيدة في اتخاذ القرارات الادارية وتفعيل دور الأعضاء. وهي نظام إداري جديد يساعد على الضبط الداخلي واكتشاف المخاطر قبل وقوعها .
الحوكمة الشاملة
غالباً ما تطبق الحوكمة في الشركات أو المؤسسات الخاصة على رأس الهرم، فتحدد العلاقة بين مجلس الإدارة، والمدير العام وفريقه، ومالكي الشركة. أما في الدول، فتحدد الحوكمة العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، إضافة الى العلاقة مع السلطة القضائية، بهدف ضمان حقوق الشعب الذي هو مصدر السلطات.
ومع الوقت، انتشر مفهوم ادارة الجودة الشاملة، التي تحدد أداء العمل بأسلوب صحيح ومتقن ليس فقط على مستوى رأس هرم الادارة، بل أيضاً على كافة مستويات الانتاج، وفق مجموعة من المعايير لرفع مستوى جودة العمل بأقل جهد وكلفة، مع تحقيق أهداف الخطط المركزية والمحلية. فترك مسائل فحص الجودة الى المنتج النهائي ترتب على المؤسسة كلفة باهظة، نتيجة التأخر في اكتشاف خلل أو خطأ ما. بينما الأفضل أن يتم التأكد من جودة كل عملية مهما كانت صغيرة قبل المضي قدماً بعمليات أخرى. فإذا كان هناك خطأ تكون كلفة تصحيحه أقل بكثير.
هذا النموذج انتقل الى مفهوم الحوكمة، وطُبّق نظام الإشراف والرقابة والتقييم والتصحيح على كافة المستويات الادارية، من قيادة المؤسسة الى الفروع والأقسام المتفرقة. وهذا ما سمي بنظام الحوكمة الشاملة.
وتسعى المؤسسة التي تطبق نظام الحوكمة الشاملة الى تحقيق أهدافها، بمستوى عال من الجودة، وتحسين أدائها باتباع خطط فاعلة، وأساليب مناسبة للإدارة الرشيدة. وذلك من خلال المشاركة في صناعة القرار وتقييمه من قبل ممثلين عن جميع الأعضاء على مستوى مركزي وفي المتحدات المحلية، عن طريق المساءلة والشفافية في العمليات الإدارية والمالية مع حفظ الحقوق واحترامها لجميع المسؤولين والقيادات والأعضاء وممثليهم المنتخبين.
فالحوكمة الشاملة إذاً تعني أن جميع المستويات الإدارية في المؤسسة تخضع لعمليات الإشراف والمتابعة والتقييم والمساءلة، من قبل الأعضاء الذين يتأثرون بقراراتها، بحيث يكون لهم رأي في هذه القرارات والسياسات وآليات تنفيذها، لترشيد العمل ورفع الفعالية والجودة والمشاركة.
أبعاد وسمات الحوكمة
بناء على ما تقدم، يمكم تحديد عدة أبعاد للحوكمة، مثل:
- البعد الاستراتيجي: ويتعلق بصياغة الاستراتيجيات العامة والتشجيع على التفكير الاستراتيجي، والتطلـع إلـى المستقبل استنادا على دراسة متأنية ومعلومات كافية عن أداء المؤسسة الماضـي والحاضـر، وكـذلك دراسة عوامل البيئة الخارجية وتقدير تأثيراتها المختلفة استنادا على معلومات كافية عن عوامـل البيئة الداخلية ومدى تبادل التأثير فيما بينها.
- البعد الإشرافي – الرقابي: ويتعلق بتدعيم وتفعيل الـدور الإشـرافي والرقابي وإدارة المخاطر، على مستوى مركزي، لمجلـس الإدارة علـى أداء الإدارة التنفيذيـة، أو للسلطة التشريعية على أداء السلطة التفيذية، وعلى مستوى الفروع والمستويات الإدارية الدنيا، من قبل ممثلين عن الأعضاء على أداء الهيئات الإدارية المعينة من قبل الإدارة أو السلطة التنفيذية.
- البعد الأخلاقي: ويتعلق بتحسين بيئة العمل من خلال إيجاد وتطبيق قواعد أخلاقية، تقوم على النزاهة والأمانـة والدقة والإلتزام والإنضباط ونشـر ثقافة الحوكمة على كافة المستويات الإدارية في المؤسسة ومحيطها بشكل عام.
- بعد المساءلة والإفصاح والشفافية: ويتعلق بالإفصاح عن أنشطة وأداء المؤسسة والعرض أمام الأعضاء و ممثليهم ممـن يحـق لهم قانوناً مساءلة الإدارة. كما يتعلق بالشفافية، ليس فقط عن المعلومات اللازمة لترشيد قرارات كافة الأطراف المعنية على مستوى الشركة، بل يتسع المفهوم ليشمل الإفصاح، ضمن التقارير العامة المتاحة للجمهور، عن المؤشرات الدالة على الالتزام بمبادئ الحوكمة.
ويمكن أيضاً تحديد عدد من السّمات التي تقوم عليها الحوكمة كما يلي (الرسم 1):
- المساءلة: لأي صاحب قرار والتأكد من قدرته على الإيضاج والتبرير
- المسؤولية: ضمان الإداء الفعال للمهام وبأفضل القدرات الموجودة وضمن الحدود المرسومة
- المعاملة المنصفة: معاملة منصفة وعادلة لجميع الأطراف
- الشفافية: ضمان توفر جميع البيانات والعمليات أمام الجهات المعنية
- قيمة طويلة الامد: نظرة مستقبلية لتحقيق الاستدامة والنمو
- الأخلاقيات: التعامل بحسب العقلية الأخلاقية الجديدة للمؤسسة
- الإشراف: الاشراف على سير الأمور الإدارية والسياسية ومتابعتها
- الكفاءة: التأكد من كفاءة كل من يتسلم وظيفة، وربط الوظائف بالرتب
- الريادة: تعزيز ثقافة الريادة والإقدام والابتكار والتجديد
أزمة المؤسسات التي تفتقر الى الحوكمة
تتمثل أزمة الكثير من المؤسسات في أن هناك إدارات عينتها السلطة التنفيذية فوق الأعضاء لتكون مهمتها اتخاذ القرارات المتعلقة بشؤون هؤلاء، دون أن يكون لهم حق مناقشة هذه القرارات أو الاعتراض عليها، وهو ما يعزز ثقافة العزوف عن المشاركة في الحياة العامة ويضعف تطور المؤسسة المفترض فيها أن تعمل على تحقيق أهداف سامية تعني الأعضاء مباشرة، مثل نهضة المجتمع. وهذا ما يجعل الأعضاء في وضع المتلقي لهذه القرارات والملتزم بتنفيذها دون مناقشة. فضلاً عن غياب الشفافية، مع الوقت، في مراقبة الميزانية وعدم وجود آلية للحصول على المعلومات المتعلقة بالإيرادات وأوجه إنفاقها، وعدم وجود آليات لمحاسبة الإدارة على قراراتها، وغيرها الكثير من الأمثلة التي تنتج مع الوقت طريقة استبدادية تدار بها بالمؤسسة واستبعاد الإدارة للأعضاء من عملية تقييم القرارات أو المشاركة في اتخاذها، انطلاقا من نظرة خاطئة إلى طبيعة الأعضاء بوصفهم مجموعات غير ناضجة وغير مؤهلة وغير قادرة على تحمل المسؤولية. (حلاوة، جمال وطه، نداء واقع الحوكمة في جامعة القدس. فلسطين، جامعة القدس. 2017.)
إن غياب الحوكمة تصبح أكثر تأثيراً في المؤسسات الحكومية والأحزاب السياسية، التي تطغى عليها ثقافة اللامبالاة من جهة، بسبب غياب التحفيز والرؤية والدينامية والحماس، أو ثقافة الطاعة و”نفذ ثم اعترض”، بحجة الحفاظ على النظام العام والوحدة الروحية وتنفيذ الخطط. فلنأخذ نموذج الحزب السوري القومي الاجتماعي كنموذج للبحث، ولننظر الى هيكليته المثبتة في الدستور الأصلي خلال وجود سعاده، لنستكشف ما إذا كان ينسجم مع المفهوم الحديث للحوكمة الشاملة، وما هي الضوابط التي تضمنها، وهل طبقت هذه الضوابط في ظل التاريخ الحزبي الحافل بالملاحقات والأزمات والسجون. وماذا حصل بعد غياب سعادة، لناحية تغييب الحوكمة على مستوى الفروع، والعبث بها على المستوى المركزي؟ مما أفسح بالمجال لنشوء التحزبات الفئوية والعهود الرئاسية، ولكل منها فريقها وخطابها وأولوياتها، وتحول مع الوقت، من ناحية التقييم الموضوعي البحت، الى مؤسسة شبه استبدادية تفتقر الى معظم أبعاد وسمات الحوكمة الشاملة.
الحوكمة الشاملة في النهضة 2 من 7
- دستور الحزب
- المديرية: هيئة معينة تدير ولجنة استشارية تقدم المشورة وتراقب
دستور الحزب
وضع سعادة الدستور منذ بدايات التأسيس، وتحديداً في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1934، وصنفه في 20 يناير/كانون الثاني 1937، وقام بعدّة مراجعات طفيفة بعد ذلك في الأربعينات.
وفي طبعة 1952 – دمشق، التي تمثل آخر نسخة من دستور سعادة قبل مسلسل التعديلات التي طالته في العقود اللاحقة، نجد مقدمة تثبت مفهوم التعاقد الحرّ بين المقبلين على الدعوة وبين الشارع صاحب الدعوة، على أساس الغاية والمبادئ الأساسية والاصلاحية، المثبتة في متن الدستور. كما ثبّت الدستور سلطة الزعامة، وأعطى الزعيم حق إنشاء “إدارات تنفيذية ومجالس إستشارية تشريعية وتنفيذية وهيئات اقتصادية لتعاونه في إدارة الحزب وخدمة القضية القومية الاجتماعية التي من أجلها نشأ الحزب السوري القومي الاجتماعي”.. وحدد وجود مجلس أعلى للحزب يجتمع بناءً على “دعوة من الزعيم لإبداء الرأي وإعطاء المشورة في شؤون الحزب الخطيرة ولتقرير سياسة أو خطة فاصلة أو حل مشكل ذي نتائج خطيرة في حياة الحزب الداخلية ولتعديل الدستور الحالي”. كما يجتمع المجلس الأعلى في حال “حيلولة أي مانع طبيعي دائم دون ممارسة الزعيم سلطاته لانتخاب خلف له”، تكون له “السلطة التنفيذية فقط وتحصر السلطة التشريعية من دستورية وغير دستورية بالمجلس الأعلى”. وسنعود لاحقاً لمناقشة تفاصيل مرحلة ما بعد غياب الزعيم.
كما يتضمن الدستور عدداً من المراسيم الدستورية التي أصدرها الزعيم، تحدد مهام وهيكلية الحزب، على المستوى المركزي (المرسوم عدد 1: مؤسسات العمد ومجلسهم)، أو على مستوى المناطق الإدارية (المرسوم عدد 2: مؤسسة المنفذيات)، والفروع (المرسوم عدد 3: مؤسسة المديريات)، إضافة الى مؤسسة رقابية منتخبة على مستوى الفروع والمناطق الإدارية (المرسوم عدد 4: مؤسسة لجان المديريات ومجالس المنفذيات)، تم تهميشها وإهمالها بالكامل على مدى مراحل تاريخ الحزب. إضافة الى القانون المالي (المرسوم عدد 5) الذي يضبط بدقة متناهية وشفافية مسائل التخطيط المالي والموازنة وآليات الصرف وتنظيم الإيرادات والاعتمادات، وتحديد المسؤوليات لكل من له علاقة بالشأن المالي على مستوى المركز أو الفروع، ويضع ضوابط صارمة للصرف حتى على الزعيم نفسه. كما يتضمن الدستور قانون الضرائب المحلية (المرسوم عدد 6) لتنظيم جباية الاشتراكات وضبط موازنات المناطق الإدارية. ويتضمن أيضاً تنظيم إنشاء رتبة عليا تسمى رتبة الأمانة (المرسوم عدد 7)، يمنحها الزعيم لمن يستحقها وتتوفر فيه شروط محددة، حيث “يؤتمن حاملو رتبة الأمانة على الأسرار الخطيرة في المهمات وينتدبون للأعمال التي تقتضي صفات ممتازة”. وتجدر الإشارة أن المادة الخامسة من الدستور حددت أن “نظام الحزب مركزي تسلسلي حسب الرتب والوظائف التي تنشأ بمراسيم يصدرها الزعيم”. وبالتالي تكون رتبة الأمانة، كرتبة عليا هي أول رتبة تصدر بمرسوم من الزعيم. وكان من المتوقع بالتالي صدور مراسيم أخرى لرتب أدنى أو أعلى منها بحسب الحاجة لتنظيم الإدارة.
سنتناول هذه المؤسسات وهيكلتها وعلاقتها ببعض من زاوية أبعاد وسمات الحوكمة الشاملة، لعلنا نستطيع تحديد نقاط القوة والضعف، في الأساس الدستوري وفي الممارسة العملية، خاصة بعد غياب الزعيم، بهدف تصحيح الأخطاء وتفادي المخاطر في المستقبل.
فلنبدأ من الفروع وننتقل الى المناطق الإدارية ثم الى المركز، ونكتشف مدى تطابق منظومة الحوكمة التي ابتدعها سعادة على كل من هذه المستويات، مع السمات والأبعاد المعاصرة لمفهوم الحوكمة قبل ظهور هذا المفهوم بسبعة عقود.
المديرية: هيئة معينة تدير ولجنة استشارية تقدم المشورة وتراقب
يحدد المرسوم الدستوري عدد 3 المتلعق بمؤسسة المديريات، صلاحية المدير بما يلي:
- إدارة مديريته وفاقاً لدستور الحزب وقوانينه وأنظمته والتعليمات الواردة إليه من رؤسائه بالتسلسل
- عقد جلسات هيئة المديرية
- عقد الاجتماعات العامة المنظمة لجميع أعضاء مديريته
- ممارسة حقوقه في مجلس المديرين
- اتخاذ التدابير الإدارية لحفظ معنوية الأعضاء عالية
- الإشراف على ممارسة الأعضاء حقوقهم وواجباتهم الحزبية والنظامية
- القيام بالأعمال اللازمة لتعزيز موقف الحزب ورفع هيبته
ويعاونه ناموس ومحصل للمال ومذيع يشكلون معه “هيئة المديرية”. وجميع أعضاء الهيئة بما فيهم المدير يعيّنون من قبل المراجع الإدارية في المنفذية أو المركز كما يلي:
المدير: يعيّن من قبل عميد الداخلية بناءً على اقتراح المنفذ العام
المدرب: يعيّن من قبل عميد الدفاع
الناموس والمحصل والمذيع: يعيّنون من قبل المنفذ العام بناءً على اقتراح المدير
الملاحظة الأولى من ناحية الحوكمة، هي أن تعيين المدير لا يحصل من قبل مسؤوله المباشر، أي المنفذ العام، حتى لا يتحكم أي منفذ عام بمنطقة كاملة من خلال تعيين المديرين فيها. بل يعود ذلك الى العميد، المسؤول في الإدارة المركزية عن المنفذ العام، لتأمين العدالة والمعاملة المنصفة والمسؤولية وإبقاء إمكانية المساءلة والتأكد من الكفاءة وضبط أي إمكانية لجنوح خارج أخلاقيات النهضة لأي سبب، ومنع التبعيات والفئويات والتكتلات. ومع ذلك، يطلب من المنفذ العام اقتراح المدير، احتراماً لواقع أنه هو من سيشرف على عمل المدير ويتعاون معه، ويجب أن يكون له رأي في اقتراح من يرتاح للعمل معهم. وهنا نرى جانب آخر من أهمية الحفاظ على المرونة في ظل الضوابط التي تمنع التجاوزات.
ولنفس السبب، لا يقوم المدير بتعيين معاونيه في هيئة المديرية، بل يقترح اسماء لكل مسؤولية، على أن يقوم المنفذ العام بتعيينهم، مع إبقاء وضع خاص للمدرب، حيث يعين مباشرة من عميد الدفاع. وهذه ميزة خاصة لها علاقة بطبيعة عمل المدرب والحفاظ على أمن وسلامة الحزب.
وبالرغم من وضع هذه الضوابط المتعلقة بتعيين المدير واعضاء هيئة المديرية، ممن يتوسم فيهم المنفذ العام أو عميدي الداخلية والدفاع خيراً، لا يمكن ضمان استمرار الجودة في العمل بدون الاشراف ومراقبة الأداء، سواء من المسؤولين المباشرين، وفي هذه الحال، المنفذ العام وهيئة المنفذية، وأيضاً من طرف آخر غير المسؤولين المباشرين الذين يتلقون التقارير من المدير وأعضاء الهيئة عن عمل المديرية. مما يعني أن هذه التقارير قد تظهر أحياناً أن الأمور كلها تحت السيطرة وتحاول إخفاء أية مشاكل أو تقصير أو مخاطر، بهدف حماية الإدارة المحلية.
لذلك، وضع سعادة المرسوم الدستوري عدد 4، الذي يرسم فيه أن تنشأ في كل مديرية لجنة استشارية تسمى «لجنة المديرية»، منتخبة من الأعضاء لمدة سنة بواسطة الاقتراع السري في اجتماع عام علني مخصص بهذا الغرض. ويحدد مهمتها (وليس مهمة رئيسها) كما يلي:
- التعاون مع هيئة المديرية بدرس شؤون الحي أو الناحية أو القرية الحزبية والسياسية
- إعطاء المشورة في كيفية معالجة شؤون المكان السياسية والمالية التي يقصد تطبيقها
- اقتراح المشاريع على المدير
- إبداء ملاحظاتها على التدابير الإدارية التي قد تولّد ما هو غير مستحب
يتضح من هذه المهمة دور مشارك في تقديم التشخيص للواقع المحلي الاجتماعي والسياسي والمالي، وتوسيع دائرة التفكير في اقتراح الحلول والمشاريع حتى لا تبقى محصورة بالمدير وهيئة المديرية، ومراقبة التدابير الإدارية وإبداء الملاحظات حولها. وهذه المهمة ترفد الإدارة المحلية المعينة بفريق متعاون يساعد على البحث والتحليل والتخطيط لكيفية التعامل مع الواقع وتطوير الأداء ورفع جودة الخطط والقرارات، كما تبقي هذه الإدارة المحلية المعينة تحت مجهر المراقبة والتقييم لقراراتها، والنصح بتحسين الأداء وتجنب المخاطر والمشكلات والأخطاء. وهذا نوع متطور من الحوكمة المحلية المشاركة الإيجابية والضابطة بنفس الوقت.
كما تضع لجنة المديرية المنتخبة تقريراً ربعياً (كل ثلاثة أشهر) بأعمالها واقتراحاتها وملاحظاتها ويحضر المدير وهيئة المديرية الجلسة التي يصير فيها تلاوة هذا التقرير. وبعد مصادقة اللجنة على قراءته يرفع إلى مجلس المنفذية. وهذا أيضاً نوع متقدم من الشفافية والمتابعة، بحيث أن تقرير اللجنة قد يتضمن شكاوى أو مقترحات أو خلاصات معينة، قد لا تكون متوافقة مع توجهات هيئة المديرية، لكنها ترفع الى مجلس المنفذية بعلم المدير وهيئته من خلال التقارير الربعية، مما يعطي هذا المجلس صورة دقيقة عن حقيقة الواقع الفعلي في كل مديرية. وهذا المجلس مؤلف من أعضاء يمثلون لجان المديريات، حيث تنتخب لجنة المديرية أحد أعضائها ليكون ممثلاً لها في «مجلس المنفذية» لدورة واحدة مدتها سنة.
وتجدر الملاحظة هنا، أن سعادة الذي تكلم عن الديمقراطية التعبيرية، التي تربط اختيار الأفراد لشغل وظائف معينة بكفايات ومواصفات ورتب محددة، لم يضع أية شروط على انتخاب الأعضاء للجنة المديرية، ولا على انتخاب احد أفراد لجنة المديرية الى مجلس المنفذية. فيما أبقى المسؤوليات المعينة خاضعة لتقييم أكثر من مسؤول (يقترح المدير ويعيّن المنفذ، أو يقترح المنفذ ويعيّن العميد)، مما يعني خضوع مواصفات الشخص المعين لتقييم كفاياته ومدى مناسبته للوظيفة التي سيتسلمها من قبل شخصين على الأقل. ولو تسنى لسعادة الوقت الكافي، برأينا، فإنه كان من الممكن أن يقوم بتحديد توصيف لكل وظيفة، ويحدد الكفايات المطلوبة، وربما يصدر مراسيم لإنشاء رتب متنوعة، بحيث يكون من شروط تولي وظيفة أو مسؤولية معينة هو أن يكون العضو حاصلاً على رتبة محددة بالحد الأدنى.
وبالتالي فإن ضبط العمل الإداري على مستوى المديرية، يتم من خلال تطبيق النظام المركزي التسلسلي، حيث يتم التعيين من السلطات الأعلى، ويتم الإشراف والتوجيه من قبل المنفذ العام وهيئة المنفذية، التي تصلها تقارير دورية وتتابع تطور سير العمل في أكثر من مديرية ضمن نطاق المنفذية. وهذا أحد أعمدة الإدارة التي عادة ما تنفذ الخطط من أعلى الى أدنى.
كما أن لجنة المديرية والدور التعاوني والتشاركي والرقابي المعطى لها في الدستور، تشكل نموذجاً متطوراً للحوكمة المحلية، التي تدرس الواقع المحلي وتراقب خطط الإدارة المحلية وتقترح الحلول وتبدي الملاحظات على القرارات، خاصة المضرّة منها، وترفع التقارير الى مجلس المنفذية. ولا تستقيم الحوكمة المحلية بدون قيام لجنة المديرية بدورها كاملاً. وفي حال غيابها، فإن الإدارة المحلية تترك بدون متابعة ومراقبة وتصويب وتغذية راجعة، مما يجعل العمل الإداري المحلي هشاً يعتمد فقط على أخلاق وخبرة المدير والهيئة المعيّنة، التي قد تعمل بغَير مراقبة ومتابعة وتقييم، باستثناء اشراف ومتابعة المنفذ العام وهيئة المنفذية، ودون ضوابط محليّة وأدوات لتحسين الأداء ورفع الجودة والتطوير المستمر للعمل.
الحوكمة الشاملة في النهضة 3 من 7
المنفذية: هيئة معينة تدير ومجلس يقدم المشورة ويدرس المشاريع ويقرر الضرائب ويقر الموازنة ويراقب ويقيّم
يحدد المرسوم الدستوري عدد 2 المتلعق بمؤسسة المنفذيات، صلاحية المنفذ العام بأنها “إدارية بحتة” ويفصّلها كما يلي:
- اتخاذ جميع التدابير النظامية لتنفيذ شؤون الإدارة في منطقته، التي تحدد بالقوانين الداخلية، وتطبيق نظام الحزب، وتنفيذ خططه الإدارية وقرارات الزعيم والعمد المختصين وقرارات مجلس المنفذية
- الإشراف على أعمال النظار وقيامهم بما وضع عليهم
- اتخاذ المقررات اللازمة في جلسة رسمية لهيئة المنفذية للدفاع عن الحزب في المنطقة وبسط نفوذه وتقوية معنويته فيها
- اقتراح إنشاء مديريات في منفذيته واقتراح تعيين أشخاص للوظائف الإدارية التابعة لمنفذيته
- يحق للمنفذ العام اتخاذ قرار في جلسة رسمية لهيئة المنفذية بفصل أي عضو، يجد، بعد المداولة، أنّ فصله المستعجل ضروري، فصلاً مؤقتاً، ويجب أن يقدم في الحال تقريراً بذلك إلى عمدة الداخلية واقتراحاً بالطرد معللاً إذا وجد الأسباب كافية.
ويعاون المنفذ العام ناموس وناظر مالية وناظر إذاعة وناظر تدريب يشكلون معه “هيئة المنفذية”. والمنفذ العام والنظّار جميعهم معينون من الإدارة المركزية كما يلي:
المنفذ العام: يعيّن بمرسوم من الزعيم
ناظر التدريب: يعيّن بقرار من عميد الدفاع
الناموس: يعيّن بقرار من عميد الداخلية
ناظر المالية: يعيّن بقرار من عميد المالية
ناظر الإذاعة: يعيّن بقرار من عميد الاذاعة
كما في حالة المديرية، الملاحظة الأولى من ناحية الحوكمة، هي أن تعيين المنفذ العام لا يحصل من قبل أي عميد، بل من الزعيم مباشرة، أيضاً لتأمين العدالة والمعاملة المنصفة والمسؤولية وإبقاء إمكانية المساءلة والتأكد من الكفاءة وضبط أي إمكانية لجنوح خارج أخلاقيات النهضة لأي سبب، ومنع التبعيات والفئويات والتكتلات.
ولنفس السبب، لا يقوم المنفذ العام بتعيين النظار في هيئة المنفذية. بل يأتي التعيين بقرار من العميد صاحب الاختصاص بناء على اقتراح المنفذ العام. والنظّار دورهم أشمل من أعضاء هيئة المديرية، وعليهم مسؤوليات تخصصّية بتنفيذ خطط العمدات التابعين لها. كما أن قرارات المنفذ العام يجب أن تتخذ في جلسة رسمية لهيئة المنفذية، بينما لم يحدد المرسوم الدستوري عدد 3 أن قرارات مدير المديرية يجب أن تتخذ في جلسة رسمية لهيئة المديرية.
مقارنة أخرى بين صلاحيات المدير والمنفذ العام، فالمدير ينفّذ التعليمات الواردة إليه من رؤسائه بالتسلسل، بينما المنفذ العام ينفّذ خطط الحزب الإدارية وقرارات الزعيم والعمد المختصين وقرارات مجلس المنفذية. أي أن المنفذ العام، إضافة الى تنفيذ قرارات (وليس تعليمات كما في حالة المدير) رؤسائه بالتسلسل، عليه أيضاً أن ينفّذ قرارات مجلس المنفذية، الذي له صلاحيات أوسع من لجنة المديرية، كما سيرد فيما يلي.
لا يمكن بالتالي ضمان استمرار الجودة وقياس وتقييم تطوير الأداء في عمل هيئة المنفذية، بدون المتابعة والمراقبة من قبل طرف غير معيّن من السلطة التنفيذية وغير تابع لها. فالعمد يشرفون على عمل المنفذية وهيئتها، كل بحسب اختصاصه، ويتلقون التقارير من هيئة المنفذية والنظار. ويمكن أحياناً أن تُظهر هذه التقارير أن الأمور كلها تحت السيطرة وتحاول إخفاء أية مشاكل أو تقصير أو مخاطر، بهدف حماية الإدارة المحلية.
لذلك، تنص المادة التاسعة من المرسوم الدستوري عدد 4، ضرورة أن ينشأ في كل منفذية مجلس تمثيلي إستشاري له صفة تشريعية في الضرائب المالية (الاشتراكات) المحلية ويتألف من ممثلي لجان المديريات المنتخبين ويسمّى هذا المجلس «مجلس المنفذية». وتحدد صلاحيته (وليس مهمته كما في لجنة المديرية) كما يلي:
- درس شؤون المنطقة الحزبية والسياسية والمناقشة فيها
- إعطاء المشورة المستخرجة من هذا الدرس في كيفية معالجة شؤون المنطقة الحزبية والسياسية
- درس مشاريع وتدابير سياسية ومالية واجتماعية واقتصادية محلية
- تقرير الضرائب (الاشتراكات) المحلية ودرس موازنة المنفذية وإقرارها كما هي أو بإحداث تخفيض في اعتماداتها
- الاطّلاع على إدارة مالية المنفذية وحساباتها بواسطة لجنة مالية ينتخبها المجلس من أعضائه (لم تقترن عملية الانتخاب هنا بأية كفاءة أو مواصفات)
يتضح من هذه الصلاحية دور مشارك في درس وتشخيص للواقع المحلي الاجتماعي والسياسي والمالي، وتوسيع دائرة التفكير في اعطاء المشورة في كيفية معالجة شؤون المنطقة الحزبية والسياسية أيضاً، ودرس المشاريع والتدابير السياسية والمالية والاجتماعية والاقتصادية في نطاق المنفذية، حتى لا تبقى هذه المسائل محصورة بالمنفذ العام وهيئة المنفذية. وقد أضيف الى الدور الرقابي والمتابع والمشارك في درس الواقع واقتراح الحلول ودرس المشاريع والتدابير، دوراً مهماً لا يمكن أن ينتظم دور المنفذية بدونه، وهو دور تشريعي تقريري يتعلق بالضرائب المحلية والموازنة والاطلاع على إدارة مالية المنفذية. وهذه الصلاحية الموسعة ترفد الإدارة المعيّنة في هيئة المنفذية بفريق متعاون يساعد على البحث والتحليل والتخطيط لكيفية التعامل مع الواقع وتطوير الأداء ورفع جودة الخطط والقرارات، كما تبقي العمل الإداري تحت مجهر المراقبة والتقييم المحلّي على مستوى المنطقة، وتقديم النصح بتحسين الأداء وتجنب المخاطر والمشكلات والأخطاء. إضافة الى دور اساسي وحاسم في تقرير الاشتراكات وإقرار الموازنة ومراقبة أداء الإدارة المالية. وهذا نوع من الحوكمة المحلية الفعالة والمشاركة والإيجابية، والضابطة للتجاوزات بنفس الوقت، يتكامل مع الحوكمة على مستوى المديرية، ويبني مدماكاً إضافياً في بناء الحوكمة الشاملة على كل المستويات.
ويضع مجلس المنفذية بياناً ربعياً بأعماله ويرفعه إلى مجلس العمد ويرسل نسخة منه إلى المجلس الأعلى. وهذا مدماك آخر، لاستكمال منظومة الحوكمة الشاملة. أهميته أن تقارير مجلس المنفذية، التي قد لا تكون متطابقة مع تقارير هيئة المنفذية، وقد تتضمن أحياناً نقداً لأداء الإدارة المحلية المعيّنة، تصل الى الإدارة المركزية التنفيذية المتمثلة بمجلس العمد، حيث ترد أيضاً تقارير هيئة المنفذية، مما يظهر أمام مجلس العمد أي خلل أو خطأ أو شكوى أو عدم انسجام أو فعالية أو تجاوزات في فهم وتطبيق الخطط المركزية التنفيذية ويساعد على المعالجة المبكرة والفعالة.
كما أن إرسال نسخة من تقارير مجلس المنفذية (دون تقارير هيئة المنفذية) الى المجلس الأعلى، تسهم أيضاً في استكمال الخط التصاعدي لتقارير الهيئات المنتخبة من لجنة المديرية الى مجلس المنفذية الى المجلس الأعلى، خلال فترة وجود الزعيم، والذي كانت مهامه وقتها “إبداء الرأي وإعطاء المشورة في شؤون الحزب الخطيرة ولتقرير سياسة أو خطة فاصلة أو حل مشكل ذي نتائج خطيرة في حياة الحزب الداخلية ولتعديل الدستور الحالي”.
وقد أجاز المرسوم الدستوري عدد 4 للمنفذ العام بحل لجنة المديرية، ولمجلس العمد مجتمعاً بحل مجلس المنفذية، بشروط صعبة، من أجل حماية الجهات الرقابية المنتخبة من عبث الإدارة المعنية مباشرة، في حال تضمنت تقاريرها نقداً أو اعتراضات على أداء الإدارة المعينة. فحلّ لجنة المديرية ليس من مهام المدير، بل من مهام المنفذ العام، الذي يحق له “حلّ لجنة مديرية غير قائمة بأعمالها أو متعدية على صلاحياتها أو متخذة موقفاً سلبياً أو لا تعاونياً تجاه الإدارة، بناءً على مطالعة مقرر كفؤ ينتدبه لهذه الغاية ويجب عليه أن يبلغ عمدة الداخلية في الحال كل تدبير من هذا النوع والأسباب الحيوية الباعثة عليه”. كما أن حل مجلس المنفذية يحتاج الى قرار من مجلس العمد مجتمعاً، بناءً على “اقتراح معلل من المنفذ العام مبني على قرار مجلس المديرين ومطالعة عمدة الداخلية”. حيث أن مجلس المديرين يتشكل من كافة مديري المديريات في المنفذية، وينعقد مرة كل ثلاثة أشهر برئاسة المنفذ العام واشتراك هيئة المنفذية في موعد تقرره عمدة الداخلية. وصلاحية مجلس المديرين هي “درس الأعمال والأحوال الإدارية المختصة بالمنفذية ووسائل تقوية الروابط الإدارية وتسهيل تنفيذ المهمات الإدارية واتخاذ قرارات رسمية في هذا الصدد”. ومن هذه القرارات قرار حل مجلس المنفذية في حالات معينة بشكل معلّل بالوقائع.
الحوكمة الشاملة في النهضة 4 من 7
- مؤسسة العمد ومجلسهم: مجلس تنفيذي لمعاونة الزعيم
- سلطة الزعامة: مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية
- مستوى إضافي من الحوكمة
مؤسسة العمد ومجلسهم: مجلس تنفيذي لمعاونة الزعيم
يحدد المرسوم الدستوري عدد 1 دور وهيكلية وصلاحية مؤسسة العمد، الذين يعيّنهم الزعيم لمعاونته في إدارة الحزب وممارسة السلطة التنفيذية. بحيث تسير إدارة الحزب وفاقاً للتصنيف الفني للمصالح الرئيسية ويجري تعيين العمد على أساس هذا التصنيف. ويعلن المصالح الآتية: الداخلية والمالية والخارجية والإذاعة والقضاء والاقتصاد والدفاع والثقافة والفنون الجميلة مصالح عامة رئيسية في الحزب. ويؤلّف العمد المعيّنون لهذه المصالح العامة الرئيسية مجلساً تنفيذياً يسمى مجلس العمد يكون له رئيس وناموس يعيّنهما الزعيم.
هنا أيضاً نجد أن العمد الذين يكوّنون أعضاء في مجلس العمد المعيّن، لا يعينهم رئيس مجلس العمد بل الزعيم. وتحدد صلاحية مجلس العمد بما يلي:
- تقرير التوافق الشكلي والنهج المشترك لتنفيذ سياسة الزعيم وخططه ومقرراته
- التناقش في مشاريع كل عميد التي تتعلق بالخطط العامة وسياسة الحزب قبل عرضها على الزعيم
- إبداء الرأي في المسائل التنفيذية التي يطلب منه الزعيم درسها
- التناقش في الموازنة العامة وإقرارها مبدئياً ورفعها إلى الزعيم للمصادقة مباشرة أو بتعديل
- اتخاذ قرارات إدارية عامة
بينما تحدد صلاحية العميد بما يلي:
- وضع مشاريع عمدته الإدارية والتنفيذية لتأمين تنفيذ سياسة الزعيم العامة وعرضها على مجلس العمد للمناقشة ثم على الزعيم للحصول على المصادقة
- اتخاذ جميع التدابير التي هي من صلاحية عمدته لتنفيذ سياسة عمدته المقررة والمصدّقة
- العميد مسؤول عن سياسة عمدته ومسؤوليته تجاه الزعيم رأساً
العميد اذا هو مسؤول عن سياسة عمدته، وهذه المسؤولية ليست تجاه مجلس العمد أو رئيسه، بل تجاه الزعيم رأساً. فهو معاون له في اختصاص معين، يضع لعمدته مشاريع إدارية وتنفيذية، وسياسة للعمدة، لتأمين تنفيذ سياسة الزعيم العامة. وتصبح سياسة العمدة ومشاريعها الإدارية والتنفيذية نافذة بعد مناقشتها في مجلس العمد ومصادقة الزعيم عليها.
فيما مجلس العمد هو مكان للتنسيق بين العمد وتبادل الخبرات والتجارب، والتناقش في مشاريع كل عميد التي تتعلق بالخطط العامة وسياسة الحزب قبل عرضها على الزعيم. والمجلس يهدف الى تقرير التوافق الشكلي والنهج المشترك لتنفيذ سياسة الزعيم وخططه ومقرراته.
ومن ناحية الحوكمة، يقوم الزعيم بشكل مباشر بالإشراف والتوجيه من جهة، وبالمراقبة والمتابعة والمحاسبة لمجلس العمد ولعمل كل عميد من جهة ثانية. وهذا كان واضحاً من خلال سيرته في قيادة الحزب ومن خلال رسائله الموجودة الى العمد في مراحل عديدة.
كما يتلقى مجلس العمد تقارير دورية من مجالس المنفذيات وأخرى من هيئات المنفذيات، تعطيه صورة حقيقية عن واقع المناطق، يستطيع من خلالها وضع الخطط وتعديلها ومناقشتها في المجلس قبل عرضها على الزعيم.
سلطة الزعامة: مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية
نرى مما تقدم، أن الزعيم هو رأس السلطة التفيذية، الذي يعود اليه إقرار الخطط التنفيذية التي يعرضها عليه مجلس العمد، إضافة الى الإشراف المباشر على عمل المجلس وترأسه ساعة يشاء، ومن خلال تعيين العمد وتقييم عملهم. كما تحدد المادة الرابعة من الدستور أن زعيم الحزب هو قائد قواته الأعلى ومصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية.
وتتضمن صلاحية مجلس العمد “تقرير التوافق الشكلي والنهج المشترك لتنفيذ سياسة الزعيم وخططه ومقرراته”. إذا للزعيم خطط ومقررات وسياسة، هو يقررها، أحياناً بصفته مصدر السلطة التشريعية، وأحياناً كونه رأس السلطة التنفيذية.
وتذكر مقدمة الدستور أن معتنقي دعوته ومبادئه يدافعون عن قضيته و”يؤيدون الزعيم تأييداً مطلقاً في كل تشريعاته وإدارته الدستورية”، وعلى هذا الأساس يتم التعاقد بين العضو وصاحب الدعوة. فيكون العضو قد التزم على أساس هذا التعاقد الحر، بالتأييد المطلق للزعيم في كل تشريعاته وإدارته الدستورية.
وتشير المادة السابعة من الدستور الى أن “كل مراسيم الزعيم وقراراته وتشاريعه خطية وتنفّذ بطريقة التسلسل”. وهنا تحديد دقيق لما يصدر عن الزعيم: مراسيم وقرارات وتشاريع.
من الواضح إذاً أن زعيم الحزب هو مصدر السلتطين التشريعية والتنفيذية، وبالتالي هو مرجع ورأس كل من هاتين السلطتين. وإذا كان مفهوم السلطة التنفيذية ومهامها واضحة لجهة تنفيذ سياسة الزعيم وخططه ومقرراته، فهل هذه السياسة والخطط والمقررات يصدرها كرأس للسلطة التنفيذية أم كرأس للسلطة التشريعية؟ وهل المراسيم والقرارات والتشاريع المذكورة في المادة السابعة يصدرها بصفته رأساً للسلطة التنفيذية أن للسلطة التشريعية؟ في فقه الدستور، المراسيم عادة تصدرها السلطة التنفيذية، والتشاريع أو التشريعات تصدرها السلطة التشريعية. فماذا عن القرارات؟
هذا الدمج داخل سلطة الزعامة للسلطتين التشريعية والتنفيذية، وعدم وجود شرح كافي العلاقة بينهما، أدى بعد غياب الزعيم وفصل السلطتين وإناطتهما بالمجلس الأعلى ورئيس الحزب، الى كثير من اللغط والتداخل والتناحر بين السلطتين المفصولتين وصلاحية كل منها على مدى تاريخ الحزب، كما سنرى لاحقاً.
بالتالي، فإن الزعيم هو بحسب الدستور:
- الشارع صاحب الدعوة إلى القومية السورية الاجتماعية
- واضع أسس النهضة السورية القومية الاجتماعية
- زعيم الحزب مدى حياته و قائد قواته الأعلى ومصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية
- أحد طرفي التعاقد مع الأعضاء المقبلين على الدعوة
- الأعضاء يؤيدون الزعيم تأييداً مطلقاً في كل تشريعاته وإدارته الدستورية
- نظام الحزب مركزي تسلسلي حسب الرتب والوظائف التي تنشأ بمراسيم يصدرها الزعيم
- كل مراسيم الزعيم وقراراته وتشاريعه خطية وتنفّذ بطريقة التسلسل
- ينشئ الزعيم:
- إدارات تنفيذية
- ومجالس استشارية تشريعية وتنفيذية
- وهيئات اقتصادية
لتعاونه في إدارة الحزب وخدمة القضية القومية التي من أجلها نشأ الحزب السوري القومي. ويكون للزعيم حقّ ترؤسها والإشراف المباشر عليها ساعة يريد.
مستوى إضافي من الحوكمة
وبالإضافة الى المستويات المتعددة من تطبيق الحوكمة الشاملة، على مستوى المديريات والمنفذيات ومجلس العمد، فقد كفل الدستور في مادته الثامنة، لكل عضو في الحزب حقه في:
- إبداء الرأي في الاجتماعات النظامية العامة والخاصة في كل ما يتعلق بغرض الاجتماع وحين يباح الكلام
- إبداء الرأي لأي مرجع أعلى أو للزعيم في كل ما يتعلق بشؤون الحزب الإدارية بشرط أن يأتي إبداء الرأي رسمياً بواسطة التسلسل
- إبداء الرأي في خطط الحزب السياسية والاقتصادية للمراجع والهيئات المختصة رأساً، له وحق الاتصال كتابة أو شخصياً بالمراجع العليا والزعيم
فقد ترك المجال لأي رفيق لديه ملاحظات أو شكاوى أو مقترحات ايصال رأيه، سواء في الاجتماعات العامة والخاصة، أو الى أي من مستويات النظام المركزي التسلسلي وصولاً الى الزعيم. وإن كان الرأي متعلقاً بشؤون الحزب الادارية، وجب ابداء الرأي عبر التسلسل الإداري، من أجل حفظ احترام المسؤولين الاداريين الذين يتولون مسؤليات ادارية، من الفرع الذي ينتظم فيه الرفيق، وصولاً الى المسؤول المرسل اليه الرأي، وإطلاعهم على هذا الرأي، حتى اذا تمّت أية متابعة أو مراجعة أو معالجة من قبل المسؤول الأعلى، يكون جميع هؤلاء المسؤولين على دراية بما يحصل، حتى لو كان الرأي هو شكاوى ضد أي منهم. أما إذا كان الرأي متعلقاً بخطط الحزب السياسية والاقتصادية، فترُك للرفيق حق الاتصال مباشرة بالمراجع والهيئات المختصة والمراجع العليا والزعيم.
وهذا شكل إضافي من أشكال تطبيق الحوكمة عبر المتابعة والتعبير عن أية مشكلات أو اعتراضات أو مخاطر محتملة من قبل أي عضو.
الحوكمة الشاملة في النهضة 5 من 7
- المجلس الأعلى: سلطة تشريع وتقرير
- خلاصة البحث الدستوري: سعادة رائد الحوكمة قبل تعريفها بسبعة عقود
- ماذا بعد غياب الزعيم؟
المجلس الأعلى: سلطة تشريع وتقرير
لم ينشئ الزعيم المجلس الأعلى بمرسوم دستوري، كما بقية المؤسسات الأخرى (المؤسسات التنفيذية: مؤسسات العمد ومجلسهم، مؤسسة المنفذيات، مؤسسة المديريات. المؤسسات ذات الصفة التشريعية: مجالس المنفذيات). مع أن المادة السادسة من الدستور تجيز للزعيم إنشاء “إدارات تنفيذية ومجالس إستشارية تشريعية وتنفيذية وهيئات اقتصادية لتعاونه في إدارة الحزب وخدمة القضية القومية الاجتماعية التي من أجلها نشأ الحزب السوري القومي الاجتماعي.”
بل نصت المادة العاشرة من الدستور: “للحزب السوري القومي الاجتماعي مجلس أعلى يجتمع بناءً على دعوة من الزعيم لإبداء الرأي وإعطاء المشورة في شؤون الحزب الخطيرة ولتقرير سياسة أو خطة فاصلة أو حل مشكل ذي نتائج خطيرة في حياة الحزب الداخلية ولتعديل الدستور الحالي”.
وهذه المادة أناطت بالمجلس الأعلى مهام:
- إبداء الرأي وإعطاء المشورة في شؤون الحزب الخطيرة للزعيم
- تقرير سياسة أو خطة فاصلة
- حل مشكل ذي نتائج خطيرة في حياة الحزب الداخلية
- تعديل الدستور
المهمة الأولى هي معاونة الزعيم في شؤون الحزب الخطيرة، (أي المهمة وليس الخطرة). وهنا يمكن أن تكون هذه الشؤون لها علاقة بالخطط العامة للحزب التي يقرها الزعيم، ويرسلها الى مجلس العمد للتنفيذ عبر التسلسل الإداري. ويمكن أن تكون مسائل استراتيجية لها علاقة بسياسة الحزب العامة وتحالفاته وموقعه. ويمكن أن تكون حول مسائل تشريعية دستورية أو مسائل تتعلق بتطوير العمل الحزبي. لكن كل ذلك يبقى في إطار إبداء الرأي وإعطاء المشورة. وهذا ايضاً تطبيق راقِ من قبل الزعيم، يُخضع خططه وسياساته وتشاريعه للمتابعة من قبل المجلس الأعلى، مع أن الزعيم هو مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية. وهنا نتحدث عن الحقوق الدستورية ولا نقيّم فيما اذا كان اعضاء المجلس الاعلى مؤهلين أن يعطوا رأياً مخالفاً أو نقدياً لخطط الزعيم أو سياسته او تشريعاته.
المهمة الثانية، تجعل من المجلس الأعلى سلطة تقرير. هناك فرق بين التقرير والإقرار. فالإقرار والمصادقة الذي يقوم به الزعيم هو لخطط أو موازنة تم وضعها والتوافق عليها في مجلس العمد، يقرّها الزعيم، أو موازنة أعدتها هيئة المنفذي يجري إقرارها في مجلس المنفذية. بينما التقرير هو وضع الخطة أو السياسة ومن ثم إقرارها. وبالمقارنة مع الخطط التي يدرسها مجلس العمد، ويتناقش بها ويعرضها على الزعيم للمصادقة أو الإقرار، فالدستور يعطي المجلس الاعلى حق تقرير الخطط والسياسات.
المهمة الثالثة تجيز للمجلس الأعلى النظر في المشاكل الداخلية الخطيرة وحلّها. وعندما وُضع الدستور لأول مرة ثم صنف في 1937، لم يكن قد صدر بعد مرسوم المحكمة الحزبية، الذي صدر عام 1948. فكانت هذه المهمة ليكون المجلس الأعلى بمثابة مرجع تحكيمي لحل المشاكل الداخلية الخطيرة. ولا ندري إن كان الزعيم، لو بقي حياً لبضعة سنوات بعد 1949، سيقوم بإبقاء هذه المهمة بيد المجلس الأعلى أم كان سينقلها بالكامل الى المحكمة الحزبية.
المهمة الرابعة هي تعديل “الدستور الحالي”. أي أن الزعيم، برغم صلاحياته المطلقة، قد أعطى للمجلس الأعلى مهاماً أساسية حتى بوجوده. وكونه أكد في أكثر من مقال أن سلطة الزعيم الفرد هي حصر على المؤسس شخصياً، وأن التوجه الديمقراطي في الدستور صريح ولا يرفضه عقل صحيح، يتبين من هذه المهام أن الهدف منها هو تدريب وتهيئة المجلس الأعلى على القيام بمهام تقريرية وتحكيمية وتشريعية دستورية خلال وجود الزعيم.
ومن الواضح هنا، وكما هو متعارف عليه في خصائص وماهية النظام المركزي التسلسلي، أن المؤسسة العليا تفوّض جزءاً من صلاحيتها لمؤسسة أدنى في سلّم النظام المركزي، ولكنها تستطيع ان تستردها وتصحح أي اعوجاجات او أخطاء. من هنا فإن الزعيم كمصدر للسلطة التشريعية مثلا، قد فوض عدداً من المهام للمجلس الأعلى في الدستور، مثل تقرير الخطط والسياسات وحل المشاكل وتعديل الدستور، لكنه يستطيع من خلال سلطة الزعامة، استرجاع التفويض وتصحيح الخطط والحلول والتعديلات عند اللزوم، أو حتى حل المجلس الأعلى برمته. وهذا ما حصل بعد عودته من مغتربه القسري، لتصحيح الخروج العقائدي المتمثل بالواقع اللبناني عند نعمة تابت وجنوح الاجتهادات الفلسفية عند فايز صايغ، وهما كانا من قيادات الحزب البارزة خلال فترة اغترابه القسري. وما يصح على السلطة التشريعية، لناحية ميزة تفويض السلطة من مؤسسة أعلى الى مؤسسة أدنى، يصح ايضاً على السلطة التنفيذية، بكافة مستوياتها. والتفويض هو إحد ميزات النظام المركزي التسلسلي، مقارنة مع أنظمة أخرى تقسم السلطة وتوزعها أفقياً أو عامودياً، وتنشيء توازناً بين السلطات الموزّعة.
خلاصة البحث الدستوري: سعادة رائد الحوكمة قبل تعريفها بسبعة عقود
يمكننا التوقف هنا لبعض الوقت، عند حدود الدستور بوجود الزعيم، لنرى كما هو موضح في الرسم رقم 2، أن سعادة أبدع في تصميم وتطبيق نظام متكامل للحوكمة الشاملة، ابتداء من اسفل الهيكلية المركزية التسلسلية في المديريات، حيث شرّع للجنة مديرية منتخبة تشرف وتدعم وتتابع عمل هيئة المديرية المعينة من السلطات التنفيذية الأعلى، وصولاً الى المناطق الحزبية في المنفذيات، حيث شرّع لمجلس منفذية تمثيلي منتخب، وأضاف الى مهام الرقابة والمتابعة والمساءلة صفة تشريعية في تقرير الضرائب المحلية واقرار موازنة المنفذية. لذلك دوره مفصلي أكثر من دور لجنة المديرية.
وعلى مستوى المركز، يقوم مجلس العمد بعمله بإشراف وتوجيه مباشر من الزعيم، الذي يقوم بالمتابعة والمساءلة وضبط المسؤوليات والكفاءة (التي شرع لها موضوع الرتب وربطها بالوظائف في الدستور)، والمعاملة المنصفة والشفافية وصيانة مسألة الأخلاق، وحق أي عضو بالتواصل وابداء الرأي مع أي مسؤول حتى الزعيم، سواء في الأمور الإدارية أو حول الخطط السياسية والاقتصادية. لا بل أن الزعيم، وبرغم سلطاته الواسعة المكتسبة بالتعاقد الحر بينه وبين الأعضاء، والذي فوضه من خلاله الأعضاء أن يكون مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية، وضع نفسه، الى حد معين، تحت نوع من المتابعة وتوسيع قاعدة النقاش قبل اتخاذ قرارات كبيرة، من خلال افساح المجال للمجلس الأعلى بتقديم المشورة وإبداء الرأي في شؤون الحزب الخطيرة، وإعطائه حق تقرير الخطط والسياسات، وحل المشاكل ذات النتائج الخطيرة على حياة الحزب الداخلية، وحتى حق تعديل الدستور، دون ذكر أن ذلك بحاجة لموافقة الزعيم وإقراره، كما هي الحال مع خطط مجلس العمد.
من هذا المنطلق، فقد حرص سعادة على تطبيق معظم أبعاد وسمات الحوكمة، المشروحة سابقاً، قبل سبعة عقود من تعريفها رسمياً وتطبيقها في المؤسسات الخاصة والحكومية حول العالم.
ماذا بعد غياب الزعيم؟
هل استطاع الحزب بعد غياب سعاده أن يحافظ على نظام الحوكمة الذي رسخه الدستور؟
لقد احتاط الدستور من حيث المبدأ لحدوث أي مانع طبيعي دائم يحول دون ممارسة الزعيم لصلحياته، مثل الموت أو الإعاقة أو غير ذلك. فنصّت المادة الحادية عشرة منه: “يجتمع المجلس الأعلى بناءً على دعوة من رئيسه في مدة خمسة عشر يوماً من تاريخ حيلولة أي مانع طبيعي دائم دون ممارسة الزعيم سلطاته لانتخاب خلف له.”
والمادة الثانية عشرة: “يكون للرئيس المنتخب السلطة التنفيذية فقط وتحصر السلطة التشريعية من دستورية وغير دستورية بالمجلس الأعلى.”
إذا، سلطة الزعيم، الذي كان مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية، وبالتالي صاحب السلطتين، وزعت سلطاته بين طرفين: رئيس الحزب الذي يتولى السلطة التنفيذية، ويعاونه بالتالي مجلس العمد وكافة الإدارات المعيّنة التابعة له بحسب النظام المركزي التسلسلي، والمجلس الأعلى الذي تحصر به السلطة التشريعية من دستورية وغير دستورية. السلطة التشريعية الدستورية تشمل تعديل الدستور. وهي المهمة الرابعة من مهام المجلس الأعلى المنصوص عنها في الدستور. ولكن ما هي السلطة التشريعية غير الدستورية؟ الجواب هو في مهام المجلس الأعلى الموضحة في الدستور ، وهي المهمة الثانية والثالثة المشروحة أعلاه، أي تقرير الخطط والسياسات، والتحكيم. أما المهمة الأولى، أي إبداء الرأي وإعطاء المشورة للزعيم، فتتحول بعد غيابه الى السلطة التنفيذية المتمثلة بالرئيس المنتخب وفريقه التنفيذي.
وبناء على هذه المهام الموضحة في الدستور، يكون دور المجلس الأعلى، بعد غياب الزعيم، وإضافة الى انتخاب الرئيس، هو متابعة عمل السلطة التنفيذية (وهذا ايضًا نوع من أنواع الحوكمة) وتقرير الخطط والسياسات العامة والأساسية للحزب، وحل المشاكل الداخلية الخطيرة، وتعديل الدستور. ويكون المجلس الأعلى من خلال اطلاعه على تقارير مجالس المنفذيات من جهة، وتقارير السلطة التنفيذية المركزية من جهة أخرى، على اطلاع على واقع الحزب بشكل عام، من وجهة نظر المجالس الرقابية المحلية، ووجعة نظر السلطة التنفيذية المركزية.
في المقابل، يكون دور الرئيس هو قيادة السلطة التنفيذية والاشراف على عمل مجلس العمد وكافة الأجهزة الإدارية المعينة بحسب النظام المركزي التسلسلي، والقيام بدور المراقبة والمساءلة والتقييم والتصحيح في عمل الهيئات التنفيذية.
وقد فسّر العديد من الحقوقيين القوميين، مفهوم السلطة التشريعية كما هو مفسر ومطبق في الانظمة الغربية الليبرالية، أي حصر المهام التشريعية في مسائل التشريع الدستوري، متأثرين بالمدارس الحقوقية الغربية والانظمة الليبرالية، بينما ثقافة سعادة لم تكن مدرسية مطوَّعة بل بحثية فيها الكثير من الابتكار والتجديد الأصلي. ولو كان ما يعنيه الزعيم والدستور بالسلطة التشريعية هو فقط سلطة التشريع الدستوري، لما كان حدد أن السلطة التشريعية من “دستورية وغير دستورية” تحصر بالمجلس الأعلى، خاصة أن سعادة معروف بتحديد المصطلحات ودقتها. فماذا كان يعني بالسلطة التشريعية غير الدستورية؟ وهل يعني ذلك أن دور المجلس الأعلى بعد غياب الزعيم يجب أن يحصر بشأن التشريع الدستوري فقط، ويكون بالتالي أقل من دوره بوجود الزعيم، والذي كان يتضمن مهام تقريرية وتحكيمية وإبداء الرأي وإعطاء المشورة للزعيم في شؤون الحزب الخطيرة؟ المنطق يقول العكس، أن هذا الدور يجب أن يتوسع بغياب الزعيم لتغطية الفراغ الكبير الحاصل.
وللتوضيح أكثر حول تفسيرات كلمة “تشريعية”، بحسب مفهوم الدستور لها، فلننظر الى المرسوم الدستوري عدد 4، حيث يرد في المادة التاسعة منه: ” ينشأ في كل منفذية من منفذيات الحزب السوري القومي الاجتماعي مجلس تمثيلي إستشاري له صفة تشريعية في الضرائب المالية (الاشتراكات) المحلية”. فهل الصفة التشريعية هنا هي تشريعية دستورية تعنى بتعديل الدستور أو سن التشريعات الدستورية؟ طبعا لا. بل أن الدور المناط بمجلس المنفذية هو دور تقريري في تحديد الضرائب، ودرس واقرار الموازنة. هذا ما اعتبره الدستور صفة تشريعية. وهذا ينطبق على دور المجلس الأعلى، الذي هو أوسع من مجرد التشريع الدستوري، ويضم أيضاً التقرير والتحكيم والإشراف والمتابعة، وهذا يفسر تحديد الدستور للسلطة التشريعية بنوعيها الدستوري والغير دستوري.
الحوكمة الشاملة في النهضة 6 من 7
- ماذا بعد غياب الزعيم؟ -تابع-
- رتبة الأمانة
ماذا بعد غياب الزعيم؟ -تابع-
يبقى عدة أمور لا بد من معالجتها، كونها غير محسومة في الدستور، خاصة تلك التي نصت عليها المادة الثالثة عشرة من الدستور: “إنّ مدة ولاية الرئيس المنتخب وطريقة انتخابه وطريقة انتقاء أعضاء المجلس الأعلى ونظامه الداخلي تحدد فيما بعد بمرسوم يصدره الزعيم على حدة ويكون له صفة المراسيم الدستورية.”
إن مدة ولاية الرئيس وطريقة انتخابه من قبل المجلس الأعلى هي مسائل إجرائية، وقد يكون المقصود بطريقة الانتخاب هي تقرير ما اذا كان هذا الانتخاب يحصل بالأكثرية العادية أو المطلقة من أعضاء المجلس الأعلى. ويمكن أن تضاف شروط تتعلق بالخبرة والكفاءة للمرشحين للرئاسة، لتأمين شروط الديمقراطية التعبيرية، وهو ما تم تحديد شيئًا منه لاحقًا في التعديلات الدستورية.
والنظام الداخلي للمجلس الأعلى هو أيضاً مسألة إجرائية، ولكنها تتعلق بصلاحيات المجلس ومهامه، وكيفية تفسير السلطة التشريعية من دستورية وغير دستورية.
أما طريقة انتقاء أعضاء المجلس الأعلى، فقد تم ذلك لمرة واحدة خلال وجود الزعيم، عام 1937، إثر ابرام وتصنيف الدستور. حيث دُعي الأمناء الذين كان سعاده منحهم الرتبة إلى إجتماع في منزل نعمة ثابت وتمّ انتخاب مجلس أعلى للحزب، بحضور الزعيم، وفاز بالعضوية الأمناء فخري معلوف، نعمة ثابت، مأمون أياس، جورج عبد المسيح، كامل أبو كامل، عبد الله قبرصي، معروف صعب، وانتخب فخري المعلوف رئيساً للمجلس، ومأمون أياس ناموساً.
وفي رسالة من الزعيم الى رئيس المجلس الأعلى بتاريخ 2 تموز 1938، بعد سفره مباشرة، يقول: “صلاحيات المجلس الأعلى: أوافق على اجتهاد المجلس في تعيين صلاحياته التطبيقية. أما الإبهام في المرجع التنفيذي الأعلى عندما لا يمكن الاتصال بالزعيم فلا يمكن أن يكون هنالك ما يدعو إليه، لأنّ التنفيذ يكون تنفيذ سياسة وتنفيذ تشريع وهو من صلاحية مجلس وكلاء العمد، ويكون من صلاحية المجلس الأعلى تقرير السياسة وتقرير التشريع واتخاذ التدابير اللازمة لمراقبة التنفيذ والتثبت من صحته عملياً.
أما إذا كان القصد من الإبهام في القرارات السياسية والتشريعية، فحين تعرض قضايا خطيرة مستعجلة لا تتمكن من انتظار الاتصال بالزعيم فالمجلس الأعلى يتخذ صلاحية التقرير النهائي ويحمل مسؤولية ذلك. وإني أعطي المجلس الأعلى صلاحية واسعة من هذا القبيل في كل الظروف التي لا يمكن معها انتظار الاتصال بي. وفي كل مقررات المجلس الأعلى يخضع المجلس للاتجاه السياسي ـ الإداري العام ولتوجيهات الزعيم.” (الاعمال الكاملة، المجلد التاسع، ص. 41).
يظهر جلياً من هذه الرسالة مفهوم التفويض من سلطة أعلى الى سلطة أدنى، بحيث تستطيع السلطة الأعلى أن تسترد الصلاحيات المفوضة وتقوم بالمحاسبة. وثانياً، يوضح الزعيم بشكل واضح دور المجلس الأعلى في “تقرير السياسة وتقرير التشريع واتخاذ التدابير اللازمة لمراقبة التنفيذ والتثبت من صحته عملياً. وهذا يظهر ان المجلس الأعلى ليس فقط سلطة تشريعية بالمعنى المحصور بالتشريع الدستوري. وهذه المهام الاضافية، من تقرير السياسة ومراقبة التنفيذ والتثبت من صحته، والاشراف المباشر على السلطة التنفيذية المتمثلة بمجلس وكلاء العمد وقتها، الذي دوره هو تنفيذ السياسة والتشريع التي يقررها المجلس الاعلى. وهذا ما عنى به الزعيم بالسلطة التشريعية “من دستورية وغير دستورية”، في المادة العاشرة من الدستور. وثالثاً أن المجلس الأعلى يجب أن يخضع للاتجاه السياسي الاداري العام ولتوجيهات الزعيم، ويحمل مسؤولية قراراته النهائية تجاه الزعيم، الذي يمثل القوميين ويعبر عن اردتهم. ففي حال الغياب الدائم للزعيم، يجب أن توضع آلية معينة لمراقبة ومتابعة ومساءلة ومحاسبة المجلس الأعلى، حتى تستوى امور الادارة المركزية.
وبعد سفر الزعيم في حزيران 1938، قام بتفويض صلاحيات تنفيذية للمجلس الأعلى ليقوم بإدارة الحزب بغيابه. وبحكم الصلاحيات الممنوحة من الزعيم للمجلس الأعلى فقد دعا الأخير إلى عقد مؤتمر إداري عام في أيلول 1938 يضمّ جميع المسؤولين العاملين في المركز، وهيئات المنفذيات في الوطن. وعُقد المؤتمر في منزل الرفيق أحمد المفتي في بيروت ودُعي “مؤتمر الاستعداد”.
وبعد ذلك استمر المجلس الأعلى في تعيين العمد ورئيس مجلس العمد وأعضاء ورئيس المكتب السياسي، كما أضاف الى أعضائه المنتخبين أيام سعادة، وعلى مراحل، بعض الرفقاء من غير الأمناء، مثل عبدالله سعادة وكريم عزقول وفاير صايغ وعبدالله محسن وفريد مبارك. وقد استمر فخري معلوف رئيساً للمجسل الأعلى حتى آب 1939، عندما استقال وانتُخب نعمة ثابت رئيساً للمجلس الأعلى وعيّن مأمون أياس رئيساً لمجلس العمد. وتوالى على رئاسة مجلس العمُد في هذه الفترة عدد من الرفقاء نتيحة الاعتقالات، منهم كامل ابو كامل، زكريا اللبابيدي، وعبدالله سعاده.
بعد عودة سعاده من المغترب القسري، اتخذ قراراً حلّ بموجبه المجلس الأعلى بمجمله نتيجة الانحراف الذي وقع فيه بعض أعضائه، وعدم حمل بعضه الآخر رتبة الأمانة. وأبقى على جسم الأمناء الذين صار عددهم حتى تاريخ استشهاده 21 أميناً، وشكل مجلس عمُد ووكلاء عمد. وعندما استشهد كان المجلس الأعلى منحلاً. فتنادى عدد من الأمناء بلغ 12 أميناً من أصل 21، استطاعوا الاجتماع في دمشق في أواخر عام 1949، واعتبروا نفسهم مجلس أمناء وانتخبوا الأمين جورج عبد المسيح رئيساً للحزب لمدة سنتين، لإعادة تنظيم صفوف الحزب. وفي 16 تشرين الثاني 1951 أقر القانون الدستوري رقم 8 الذي ينظم الصلاحيات التشريعية والتنفيذية وطريقة انتخاب المجلس الأعلى. حيث أبقي انتخاب أعضاء المجلس الأعلى يتم من قبل الأمناء ومن بينهم، كما حصل أيام الزعيم في 1937 ولمرة واحدة.
رتبة الأمانة
نص المرسوم الدستوري عدد 7، على ما يلي:
مادة أولى: تنشأ في الحزب السوري القومي الاجتماعي رتبة عليا تسمى رتبة الأمانة.
مادة ثانية: يمنح الزعيم رتبة الأمانة لمن يستحقها وتتوفر فيه الشروط التالية:
1 ــــ أن يكون قد مر خمس سنوات على اعتناقه العقيدة القومية الاجتماعية ونظام الحزب السوري القومي الاجتماعي وانخراطه في سلكه.
2 ــــ أن يكون قد أظهر في مدة وجوده في الحزب السوري القومي الاجتماعي فهماً صحيحاً للعقيدة القومية الاجتماعية وإيماناً بها وبمنشئها الزعيم، وعملاً نزيهاً، خالصاً لها وللقضية الناشئة عنها وحافظ على سلامتها وسلامة الحركة المنبثقة عنها ونظامها تحت كل الظروف.
3 ــــ أن يكون مناضلاً ممتازاً بالفكر والفعل في سبيل القضية السورية القومية الاجتماعية، مجاهراً بمبادئها، وأن يكون قد قام بأفعال وتضحيات غير اعتيادية في سبيل العقيدة والنظام.
4 ــــ أن يكون، في جميع الظروف السهلة والصعبة، مثالاً في الإيمان بالزعيم والعقيدة والنظام وفي الأمانة الكلية في القيام بالأعمال والمسؤوليات والمهمات التي أسندت إليه.
5 ــــ أن يكون أظهر تفوّقاً جلياً في الإيمان القومي الاجتماعي وفي الإدراك العالي للعقيدة القومية الاجتماعية وفي الشجاعة والإقدام والحنكة في سبيل العقيدة وأهدافها.
ونصّت المادة الخامسة من هذا المرسوم على ما يلي: “يؤتمن حاملو رتبة الأمانة على الأسرار الخطيرة في المهمات وينتدبون للأعمال التي تقتضي صفات ممتازة.”
من الواضح أن الهدف من هذه الرتبة العليا هو تهيئة جسم من الأعضاء المتميزين الذين يستطيعون تحمّل المسؤوليات المركزية، لرفد قيادة الحزب بالمسؤولين المؤهلين واصحاب الفهم الصحيح للعقيدة والخبرة والتضحية والإيمان والأمانة والدقة والإدراك والشجاعة والإقدام والحنكة. وأيضًا تأمين محيط متعاون مع القيادة، من الأمناء الذين لا يتحملون مسؤوليات في أي من السلطتين التشريعية والتنفيذية، ويتحلى بكل المؤهلات التي تمكنه من المتابعة وإبداء الرأي واقتراح الحلول والأفكار والخطط، كون هذا الحق قد أعطاه الدستور لأي رفيق، فكيف إذا كان من الأمناء.
لكن ما بقي ناقصاً بعد غياب الزعيم، هو من يمنح رتبة الأمانة. وتقرر في بداية الخمسينات، أن المجلس الأعلى هو من يمنح هذه الرتبة. فكانت هذه فجوة ضربت مفهوم الحوكمة على مستوى رأس السلطة، خاصة وأن ذلك ترافق مع تقرير أن الأمناء هم من ينتخب أعضاء المجلس الأعلى. لأن المجلس في هذه الحالة، قد يقرر منح رتبة الأمانة لأعضاء يضمن ولاءهم ليعيدوا انتخابه. وهذا ما حصل تقريباً، حتى في تسوية منح حوالي 33 أمينا جديداً سنة 1954، إثر خلافات بين المجلس الأعلى والرئيس عبد المسيح، أدت الى استقالته وانتخاب الامين عصام المحايري رئيساً. لكن رفض المنفذين العامين وعدد من القوميين لهذا الاجراء، فرض على المجلس الأعلى تعيين عدد جديد من الامناء، ثم انتخب مجلس أعلى جديد وقام بانتخاب عبد المسيح للرئاسة مجدداً. هذا نموذج من الممارسات التي ضربت صورة رتبة الأمانة وحولتها الى رتبة انتخابية، وفي بعض الأحيان كان حاملوها لا يستوفون شروطها. كل ذلك أدّى لاحقاً الى نقمة كبيرة على جسم الأمناء، وصلت ذروتها في مؤتمر ملكارت 1969، حيث تم إلغاء رتبة الأمانة وانتخاب أعضاء المجلس الأعلى من قبل مندوبين ينتخبهم الرفقاء. لكن هذا كان ضرباً بعرض الحائط بفلسفة الديمقراطية التعبيرية والغاء عنصر الكفاءة، والعودة الى الديمقراطية التمثيلية.
غير أن هذا النظام لم يصمد الا بضعة سنوات، فأعيدت رتبة الأمانة، ولاحقاً في 1980، تم إنشاء مؤسسة المؤتمر العام المؤلف من مندوبين ينتخبهم القوميون في المناطق والفروع الى عضوية المجلس القومي، إضافة الى الأمناء. وأصبحت الهيئة الناخبة هي مجموع الأمناء المعينين والمندوبين المنتخبين. فكانت أيضاً تسوية غير موفقة، إذ بقي من يعين الأمناء هو المجلس الأعلى، ولاحقاً لجنة للمنح منتخبة من المؤتمر، وبقي انتخاب المندوبين هو ديمقراطية تمثيلية لا تأخذ عامل الكفاءة بعين الاعتبار، وأحياناً تخضع لتأثيرات السلطة التنفيذية أو الفئات المتحكمة. علماً أن الدستور لم يحدد أية شروط حول الكفاءة عندما ذكر عملية انتخاب لجان المديريات، ومن ثم انتخاب ممثل لكل لجنة ليكون عضواً في مجلس المنفذية. واعتبر البعض أن التمثيل مشروع بين مجموعة أعضاء لديهم الوعي ووحدة الاتجاه والعقلية الاخلاقية الجديدة.
الحوكمة الشاملة في النهضة 7 من 7
- من يراقب ويحاسب المجلس الأعلى؟
- الحوكمة بعد غياب الزعيم
في المقابل، وبعد انشقاق 1957، قام التنظيم الذي كان يقوده الامين عبد المسيح بتعليق العمل برتبة الأمانة، وتم التشريع لآلية انتخابية تبدأ من الفروع والمناطق الحزبية وتنتخب أعضاء في هيئة انتخابية، من الرفقاء، يقومون بدورهم بانتخاب ثلث أعضاء المجلس الأعلى سنوياً. وقد قامت هذه المؤسسة مؤخراً بإعادة العمل برتبة الأمانة دون منح الرتبة الى أحد حتى الآن.
وقد ظهرت مقترحات عديدة عبر السنوات الطويلة، حول كيفية نيل رتبة الأمانة، أهمها للأمين الراحل هنري حاماتي، تطالب بإعادة الاعتبار الى مفهوم الرتب في الحزب، بما في ذلك رتبة الأمانة، وربطها بكافة الوظائف الحزبية، على أن تكون هذه الرتب جميعها رتب يكتسبها كل من يستوفي شروطها تلقائياً دون تدخل السلطة العليا المستفيدة من تعيين أمناء ليعيدوا انتخابها. ومؤخراً ظهرت دراسة تفصيلية حول الديمقراطية التعبيرية للرفيق شحادة الغاوي، تبنى فيها هذا الطرح وطوّره، بالقول أن مصدر السلطة يجب ان يكون القوميين الاجتماعيين، ولكن من يتم انتخابه يجب أن يكون من اصحاب الرتبة المناسبة. لذلك يبقى حق الانتخاب مع الأعضاء، الذين من المفترض أنهم يمتلكون مستوى معين من الوعي والفهم ووحدة الاتجاه، من ضمن شروط العضوية في الحزب. وبنفس الوقت فإن من يتم انتخابهم يكونون من اصحاب الكفاءة التي يثبتها حصولهم على الرتبة المناسبة، بعد تصحيح كيفية تحصيل هذه الرتبة بشكل لا يخضع لمزاجية واستنساب ومصالح القيادات المتعاقبة.
من يراقب ويحاسب المجلس الأعلى؟
تبقى مسألة أخرى لها علاقة بالحوكمة على مستوى القيادة، بعد غياب الزعيم، الذي كان له حق الإشراف والمتابعة وتقييم الأداء والمسائلة والتصويب والتصحيح والمحاسبة للمجلس الأعلى، فمن يقوم بذلك بعد غياب سعادة، وكيف، حتى لا يتحول المجلس الأعلى سلطة لا رقابة عليها ولا ضوابط، خاصة عندما كانت هي من يمنح رتبة الأمانة، والأمناء ينتخبون إعضاء المجلس الأعلى؟
في الثلاثين سنة التي تلت غياب سعاده، والتي تخللتها مصائب كبرى حلت بالحزب، مثل اتهامه باغتيال المالكي واقتلاعه من الشام، أو المحاولة الانقلابية الفاشلة ضد حكم فؤاد شهاب البوليسي، وما تلاه من اعتقالات وتعذيب، وبقاء القيادة لقرابة الثمانية سنوات في السجن، الى اندلاع الحرب اللبناني وما رافقها من مآسي… إضافة الى انشقاقين داخليين في 1957 و 1975.. في كل هذه المرحلة، تمحور الفكر الدستوري في الحزب حول فكرة الفصل والتوازن بين السلطات. بأن من يراقب المجلس الاعلى وينتخبه ويحاسبه من خلال الانتخاب هم الامناء. على أن توازن سلطة الرئيس المنتخب سلطة المجلس الأعلى. فطبق نظام يشبه الى حد كبير الانظمة الرئاسية في العالم. وكان للرئيس المنتخب من المجلس الأعلى الكثير من الصلاحيات. وكان الاصطدام الأول للمجلس الأعلى مع الرئيس عبد المسيح في 1954، الذي كان أيضاً الرفيق الأول والأمين الأول والرئيس الأول للحزب بعد سعادة. يومها اتهم عبد المسيح بالتسلط، بدل تقييم المسببات التنظيمية وليس فقط الجوانب الشخصية. لأن من اتهمه بالتسلّط قاموا لاحقاً بأكثر مما اتهموه به من موبقات.
لاحقاً، لم يسلم أي رئيس تقريباً من الاصطدام مع المجلس الاعلى بسبب تقسيم السلطة واختلال نظام الحوكمة. وبدأ مسلسل التعديلات الدستورية لتقاسم السلطة وتوزيعها بين المجلس الأعلى والرئيس، بحسب الشخص المتوقع انتخابه رئيساً والتوازنات في المجلس الأعلى، خاصة بعد الانقسامات والفئويات والشروخ الروحية التي حصلت. واحتدمت النقاشات حول ما اذا كان المجلس الاعلى سلطة تشريعية أم سلطة عليا في الحزب، خاصة وأن لا احد يحاسبها.
ومع الوقت تحول النظام الحزبي الى نظام أقرب الى الانظمة البرلمانية منه الى الأنظمة الرئاسية، من خلال الحد من صلاحيات الرئيس وتقييده بالعديد من الشروط والموافقات المطلوبة. فبعد أن كان هو من يختار كامل العمد، ويبدلهم ساعة يشاء، على اعتبار أنه يحق للرئيس اختيار الفريق الذي يرتاح للعمل معه، أصبح لاحقاً يقترح اسماء العمد على المجلس الأعلى، الذي يقوم بتعيينهم، أو يعينهم الرئيس على أساس إقرار تعيينهم من قبل المجلس الاعلى.
لاحقاً، وبعد إقرار مؤسسة المؤتمر، الذي من المفترض أن يمثل القوميين بطريقة ما، ويعبّر عن إرادتهم، وكونهم هم مفترض أن يكونوا مصدر السلطة بعد غياب الزعيم، نشطت المطالبة بأن يكون المؤتمر هو سلطة قرار، أو أن تكون توصياته ملزمة للقيادة التي ينتخبها. لكنها حتى الآن باءت بالفشل، برغم أنها محاولات تكررت لأكثر من 40 عاماً. وبقي المؤتمر مكاناً لطرح الأفكار والمشاريع والدراسات، واصدار التوصيات، لكنها توصيات غير ملزمة، مما يحصر مسألة المراقبة والمساءلة للمجلس الاعلى تقتصر على بعض الكلمات في الجلسات العامة، وربما التوصيات غير الملزمة، وبقيت المحاسبة محصورة بالعلمية الانتخابية.
الحوكمة بعد غياب الزعيم
وهذا النقاش يقودنا الى البحث مجدداً في صلاحيات سلطة الزعامة، التي تم توزيعها بعد غياب الزعيم، بين سلطتين تشريعية وتنفيذية، مع التأثر بالمفهوم الغربي للديمقراطية التمثيلية الليبرالية، التي تحصر دور السلطة التشريعية بالتشريع الدستوري وسن القوانين بشكل أساسي، وبنسبة أقل، مراقبة ومحاسبة السلطة التنفيذية، مع الحرص على فصل السلطات وتوازنها، وإضافة السلطة القضائية كسلطة ثالثة.
كل هذا التخبط حصل نتيجة الغياب المفاجئ باغتيال الزعيم من قبل الطغمة الحاكمة في لبنان والشام، بتشجيع من عدد من الحكام العرب والحركة الصهيونية والدول الإستعمارية. وأيضاً نتيجة الظروف الصعبة التي مر بها الحزب عبر تاريخه، مما حرمه من الاستقرار في التخطيط والتشريع والتنظيم، من أجل ضمان استمرار نظام الحوكمة البديع الذي ابتكره سعادة قبل سبعين عاماً من تعريف مفهوم الحوكمة في العالم.
لذلك، لا بد من أبحاث دستورية وإدارية متخصصة، لدراسة كيفية الانتقال من دستور سعادة، القائم على حكم الفرد المعبر الأوفى عن الإرادة العامة في الأمة، والذي منحه القوميون سلطة الزعامة الواسعة من خلال التعاقد الحر معه، كونه الشارع وصاحب الدعوة، وقبلوا به مصدراً للسلطتين التشريعية والتنفيذية، الى دستور ما بعد سعادة، حيث حكم القيادة الجماعية المتمثلة بالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، والعمل على إجراء التعديلات اللازمة بعد غياب سعادة.
فسلطة الزعامة كان لها مراسيم وقرارات وتشاريع كما مرّ سابقاً. والمراسيم هي بطبيعتها تنفيذية، والتشاريع بطبيعتها تشريعية دستورية. أما القرارات فيمكن أن تكون تشريعية (غير دستورية) أم تنفيذية. لذلك يجب أن يعمل عدد من القانونيين في الحزب على دراسة كافة أنواع قرارات الزعيم وتصنيفها، ومن ثم توزيعها بين الرئيس المنتخب والمجلس الأعلى.
على سبيل المثال، عندما كانت تعرض خطط العمد على الزعيم للإقرار والمناقشة، هل يناقشها الزعيم ويقرها بكونه رئيساً للسلطة التنفيذية؟ أم بصفته رئيساً للسلطة التشريعية؟ وبالتالي هل تنتقل صلاحية إقرار خطط مجلس العمد بعد غياب الزعيم الى الرئيس أم الى المجلس الأعلى؟
والزعيم، بصفته مصدراً للسلطتين التشريعية والتنفيذية، كان لديه صلاحية اصدار مراسيم دستورية، كما هي المراسيم من عدد 1 الىى 7 في الدستور، بصفته التنفيذية مع صلاحيات تشريعية. وهذا حق تعطيه الدساتير في الكثير من الدول، حيث يستطيع رئيس الدولة بغياب انعقاد السلطة التشريعية، أن يصدر مراسيم تشريعية، اسماها الزعيم في الدستور المراسيم الدستورية. ولو كان الزعيم يستخدم صلاحياته التشريعية، لكان أسماها القوانين الدستورية. لكن التعديلات على الدستور التي أجرتها القيادات والمؤتمرات لاحقاً، غيرت اسمها الى القوانين الدستورية، ربما لأن ثقافة فصل السلطات لا تحتمل أي دمج بين التنفيذ والتشريع، فيما سلطة الزعامة كانت تجمع السلطتين معاً.
إن التعديلات الدستورية التي حصلت على مدى سبعة عقود منذ غياب سعادة، لم تستطع أن تقدم نموذجاً دستورياً متماسكاً يغطي فراغ غياب الزعيم وسلطته، وتنظم عمل قيادة الحزب وسلطاتها التنفيذية والتشريعية (الدستورية وغير الدستورية)، ولا الى تسديد ما كان مؤجلاً من قرارات مثل كيفية انتقاء اعضاء المجلس الأعلى أو حتى كيف يتم منح رتبة الأمانة. كل ذلك أدى مع الوقت الى ضرب نظام الحوكمة الدقيق الذي ابتكره سعاده باكراً، مما نتج عنه استبداد وتحكّم واستئثار وصراع على السلطة وفئويات وتضارب في المصالح وضرب للوحدة الروحية على مستوى قيادة الحزب، وساعد على انحسار تدريجي وتآكل متسارع لدور الحزب كدولة الامة المصغرة وأداة توحيدها وبعث نهضتها.
أخيراً، وإضافة الى الخلل الذي حصل على مستوى القيادة المركزية، فقد فرضت الظروف القاسية التي مر بها الحزب والاضطهاد غير المسبوق، إهمال مسألة انتخاب لجان المديريات ومجالس المنفذيات وقيامها بدورها في تقديم المشورة والمتابعة والمساءلة والتصويب ورفع التقارير التفصيلية عن الواقع الى السلطتين التشريعية والتنفيذية. فاستمر عمل الحزب لعقود دون رقابة ودون محاسبة من قبل الصف الحزبي وممثليه، فغابت مقاييس التقييم وادواته، وتراجع العمل وزادت الانتقادات والخلافات.
لذلك لا بد لأي عملية اصلاح وتطوير، أن تأخذ هذه المسائل بعين الاعتبار، وتعيد ترميم نظام الحوكمة الشاملة الذي ابتدعه سعادة، على كافة مستويات العمل الاداري، لاستعادة الثقة والفعالية والتوازن ورفع مستوى الأداء من خلال الاشراف والمتابعة والمساءلة والمحاسبة والتطوير، وتعزيز الشفافية والاستدامة والنمو والعدالة والريادة، وإعادة الاعتبار للكفاءة والعقلية الاخلاقية الجديدة.
وذلك لا يحصل دون تطبيق الحوكمة مجدداً على مستوى المديريات من خلال تأمين انتخاب لجان وتفعيل دورها، وعلى مستوى المناطق، من خلال إعادة الإعتبار لأهمية دور مجالس المنفذيات، وعلى مستوى السلطتين التنفيذية والتشريعية من خلال تحديد دقيق لصلاحيات كل منها، وعلاقتها مع بعض على قاعدة وحدة الرؤية والخطط والروحية والأهداف، وترسيخ آليات المراقبة والمتابعة والمساءلة والشفافية والتقييم والمحاسبة لكل منها، وتحديد آليات متينة وآمنة لمنح رتبة الأمانة لمستحقيها فقط، وإحداث رتب أخرى وربطها بالوظائف الأساسية في نظام الحزب المركزي التسلسلي، وتصويب وترشيد آليات انبثاق السلطة العليا بشكل يوصل من يستطيع أن يعبّر عن الارادة العامة للقوميين بالشكل الأفضل في مرحلة معينة، وتأمين فعالية مؤسسة المؤتمر العام ودوره المحوري في متابعة ومراقبة ومحاسبة السلطات العليا، من خلال جعل توصياته ملزمة لأية قيادة جديدة. (رسم 3)