التحركات الطلابية في الغرب

يقف العالم مشدوهاً أمام التحركات الطلابية في أعرق الجامعات الأميركية والبريطانية والأوروبية، في مواجهة أجهزة الشرطة والأمن، التي تتصرف مثل مثيلاتها في دول العالم الثالث القمعية، في وقت تدعي هذه الدول أنها تسوق الديمقراطية للعالم. وتسهم وسائل الإعلام التقليدية، المسيطر عليها الى حد كبير من قبل الصهيونية العالمية وأموالها، في شيطنة هذه التحركات، وتسويق فكرة أن المحرك الأساسي لها هي الحركات المتطرفة العربية والإسلامية، وهي سردية تدحضها الوقائع، حيث أن نسبة الطلاب العرب والمسلمين في هذه التحركات ضئيلة نسبياً، برغم الدور الكبير الذي يقومون به.

وفي حوارات مع بعض الطلاب في أميركا، من اليمين اللبناني، الذي غالباً ما يصطف في السياسة الداخلية الأميركية مع الجمهوريين ويعتبر الديمقراطيين عبثيين ويساريين (!)، نرى فعالية السردية الصهيونية المسوق لها من الاعلام الرسمي والتقليدي في الغرب، حيث الاتهامات هي للعرب والمسلمين بتخريب المؤسسات التعليمية العريقة التي تقدم افضل مستوى تعليمي لهؤلاء الطلاب العرب والمسلمين الجاحدين. ويعزز هذه السردية، بعض اعمال الشغب التي يقوم بها من وقت لآخر، المهاجرين المغاربة في الدول الأوروبية، التي أدت الى نوع من الاسلاموفوبيا في أوروبا، نتيجة ازدياد نسبة المسلمين والعرب في أوروبا، مما يؤدي مع الوقت الى نشوء مطالبات بحقوق لهذه الجماعات مفترض أن تكفلها دساتير الدول الغربية. ولكن يبدو أن هذه الدول تريد الاستفادة من هؤلاء المهاجرين اقتصاديا، دون السماح لأية حقوق سياسية لهم الا بعد تدجينهم.

وكنا قد كتبنا مقالا في تشرين الثاني الماضي، حول التغير الجذري الحاصل في رأي الطلاب والشباب والنخب الاكاديمية في أميركا وبريطانيا، نتيجة اكتشافهم، من خلال وسائل تواصل اجتماعية غير مسيطر عليها، مثل تيك توك، التي يجري شيطنتها هي أيضا، زيف السرديات الغربية والصهيونية لما يحصل في فلسطين، وأن إسرائيل ليست الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط التي تواجه الإرهاب وحيدة، ولذلك على الدول الغربية أن تقدم لها الدعم غير المحدود من أموال ضرائب شعوب الغرب. بل أنها دولة احتلال وقمع ومجازر وإبادة جماعية لا تقل خطراً عن النازية أو عن نظام الابارتيد البائد في جنوب أفريقيا، التي بادرت الى تقديم شكوى ضد جرائم العدو في غزة على مدى الأشهر الماضية. لا بل أن مجموعات الطلاب والأساتذة الجامعيين الذين التقيناهم في الجامعات الأميركية والبريطانية، كانوا يدافعون عن مطالبتهم بفلسطين “حرة من البحر الى النهر” ويقولون أن الحل هو بعودة المهاجرين اليهود الى مواطنهم الأصلية وتفكيك دولة الاستيطان الاحتلالي. وهو ما أظهرته لاحقا الإحصاءات التي قامت بها مؤسسات مستقلة في أميركا، والتي أظهرت أن 51% من الشباب الأميركي بين عمر 18 و29 يعتقدون أن الحل في الشرق الأوسط هو في تفكيك دولة اسرائيل!

فما الذي تغيّر، وأدى الى هذا التغيير؟

في منتصف التسعينيات، وفي خلال الحصار الأميركي والغربي على العراق الذي أدى الى موت مليون طفل عراقي من الجوع والمرض، تداعينا مع مجموعات طلابية في أميركا واليابان وأوروبا، وقررنا إقامة اعتصاماً موحداً في مئة مدينة في العالم بنفس التاريخ والتوقيت، للاعتراض على هذه الإبادة الجماعية. يومها كان لبنان يدار من خلال النفوذ الشامي. اتصلت برئيس الحزب القومي وقتها الأمين إنعام رعد من نيويورك، وقلت له يجب أن يتحرك طلابنا للمشاركة بهذا الاعتصام في عواصم دولنا. قال لي هذا لا يبحث على الهاتف، وطلب أن آتي الى بيروت لمناقشة الموضوع، حتى لا نخضع لترهيب المخابرات الشامية. جئت الى بيروت، وقمت بنقاش حاد معه، فقال لي، ما تقومون به مهم جدا، ولكن في ظل الخلاف الكبير بين الشام والعراق، لا يمكننا زج الطلاب في المدن اللبنانية او الشامية بهذا التحرك، لأن نتيجته الحتمية هي الاعتقال والتنكيل بهم من قبل السلطات القائمة. لكنه استطرد بالقول، أن هناك مسألتين استراتيجيتين يجب أن نبقيهما أمام ناظرينا خلال عملنا:

1- يجب أن نخاطب الغرب بلغة يفهمها، ترتكز الى القانون الدولي وشرعة حقوق الانسان، التي تدين الاحتلالات والحصار والتجويع والإبادة الجماعية، وتشرعن حق الشعوب بالمقاومة وتقرير المصير. وهذا ينعكس ليس فقط على الوضع في العراق، انما أيضاً في فلسطين وجنوب لبنان والجولان. وقال لي أنه شخصياً، قدم العديد من المحاضرات في اعرق الجامعات الأميركية والبريطانية والأوروبية، وهو على تواصل دائم مع شخصيات عربية وغربية من النخب العاملة في تلك الجامعات، مثل أدوار سعيد وكلوفيس مقصود ونعوم تشومسكي وغيرهم. وهذا النوع من الحوار النخبوي لم نستطع تحويله الى مادة شعبية يفهمها الناس ويتبنونها في الغرب، خاصة في ظل السيطرة الإعلامية الصارمة التي تتبنى السردية الصهيونية حصرياً. وقتها لم يكن هناك تواصل اجتماعي ولا وسائل إعلامية خارج عن تلك السيطرة في الغرب. فكان الرأي العام الغربي محاصراً ومغسولاً دماغه بتلك السردية.

2- لكسر هذا الحصار، عليكم كشباب وطلاب، التواصل المباشر مع زملائكم في كبريات الجامعات الغربية، ومحاولة زرع بذور سردية أخرى معاكسة للسردية الصهيونية، على صعوبة وخطورة تلك المهمة، ولكن ليس بلغة تعبوية داخلية، بل بلغة موضوعية علمية ترتكز الى أساسات يعترف بها هؤلاء الطلبة، مثل القانون الدولي وشرعة حقوق الانسان، لإظهار أن سياسات بلادهم تنتهك ما يسوقون له هم أنه قيم العالم المتحضر وحقوقه. خاصة وأننا نؤمن أن الشباب والطلبة لهم دور محوري في التغيير الاجتماعي والسياسي. وقد تكلّم الكثير من المفكرين الأوروبيين عن أهمية الدينامية التي يتمتع بها جيل الشباب والطلاب، والتي تكون محركاً للتغيير فيما لو تم تأطيرها في اتجاه معيّن.

تابعنا نشاطنا وقتها، وأقمنا اعتصاماً عالمياً في مئة مدينة عالمية، ليس بينها مدينة عربية واحدة، في ظل تعتيم إعلامي شديد وحصار وتهديدات متنوعة.

وتتالت الأحداث على مدى العقود الثلاثة الماضية، وكان من الصعب دائماً اختراق السرديات الغربية السائدة، والستيريوتايب المسوّق عنّا في الغرب. ومع بداية ظهور الميديا الاجتماعية، وخاصة القليل منها غير المسيطر عليه من الآلة الإعلامية الغربية الأساسية، مثل تيك توك، التي يجري العمل على شيطنتها ومنعها في الغرب، والتي يحمّلها المسؤولون في الغرب مسؤولية الولوج الى عقول الطلاب بعد 7 أكتوبر، وإيصال سردية مضادة للسردية السائدة، مما أدى الى تفكيك هذه الأخيرة وضرب أساساتها.

وستبقى مراكز الأبحاث العالمية تبحث لوقت طويل، ما هي الأسباب والخطط التي اعتمدت في الأشهر الماضية، وأدت مع الوقت الى تعبئة الطلاب والنخب الأكاديمية في الجامعات، لتصبح مسألة فلسطين هي الإطار الجامع لهم، الذي يشكل برأيهم دفاعاً عن القيم التي سوقها الغرب، وعاكستها سياساته، خاصة من خلال الدعم المفتوح لإسرائيل وجرائمها، ومدّها بالتمويل والسلاح، الذي يستخدم في الإبادة الجماعية في غزة.

نقطة الانطلاق إبان 7 أكتوبر كانت صعبة وشائكة. فالدول الغربية والاعلام العالمي الرسمي والاجتماعي المسيطر عليه، مثل فايسبوك وتويتر (X) وغيره، تبنت جميعها السردية الصهيونية والأكاذيب التي سوقتها، من قطع رؤوس الأطفال والاعتداء على النساء والمدنيين الآمنين من قبل إرهابيي حماس والجهاد. حيث ركزت هذه الحملات على أن ما حصل في 7 أكتوبر هو سبب الحرب المدمّرة التي بدأتها إسرائيل على المدنيين في غزة. فكانت نقطة الانطلاق هي الإضاءة على أن 7 أكتوبر سببه 75 عاماً من الاحتلال والتهجير والحصار والمجازر والاستيطان، وسلب حق الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره وإقامة دولته، اسوة بكل شعوب الأرض. وهذه النقطة امتدّت بشكل واسع وبدأت تحفز جيل الشباب الغربي على البحث والتفكير والتشكيك بالسرديات السائدة منذ عقود حول المنطقة. وقد أجج ذلك صلف الاحتلال وحربه المدمرة التي تحوّلت في فترة قياسية الى إبادة جماعية لا تفرق بين الأطفال والنساء والمدنيين والمنازل والمدارس والمستشفيات والجامعات وحتى مراكز المنظمات الدولية في غزة.

في الشهر الأول، كان السائد في المدن والجامعات الأميركية هي مظاهرات مؤيدة لإسرائيل بحجة التعاطف مع المستوطنين المدنيين الذين “نكّلت بهم حماس”. وذهب مؤيدو إسرائيل في الجامعات الى أبعد مدى، حيث قامت جمعيات ومجموعات من الطلبة وبعض الأساتذة بتقديم شكاوى ترهيبية ضد كل من يتحرك في هذه الجامعات دعما لفلسطين، وكانت بمعظمها تجني على طلاب وأكاديميين يتمتعون باحترام وسيرة ناصعة. وهذا ما استعدى الكثيرين ممن كانوا على الحياد. وبدأت التظاهرات في المدن تتصاعد اسبوعاً بعد آخر، يشارك بها كل أسبوع أعداداً أكبر من شرائح متنوعة، بما في ذلك الكثيرون من اليهود، الذين بدأوا يرفعوا شعارات مثل “لا تقتلوا باسمنا”، و”النازية جعلتنا نخاف أن نكون يهوداً، والصهيونية جعلتنا نخجل من كوننا يهوداً”. وفي المقابل، بدأت السردية الصهيونية الغربية الرسمية تنعت المشاركين بهذه التظاهرات بالإرهاب، وأنهم مسيّرون من قبل الجاليات العربية والإسلامية، التي كانت بالحقيقة في معظم الأحيان خجولة ومستقيلة من أي دور أو تخطيط، فيما عدا بعض الطلاب والشباب من النخبة في الجامعات الكبرى.

ومع تصاعد الجرائم الصهيونية والصلف والاستكبار الإسرائيلي، والدعم اللامحدود الأميركي والغربي الى حد التملّق من قبل رؤساء دول ومسؤولين، تعمقت أكثر المقولات المناهضة لها، المرتكزة الى الوقائع العسكرية والاجرامية والسياسية، والتي أصبحت في صلب قناعات الطلاب والنخب الأكاديمية في الجامعات الأميركية والبريطانية والأوروبية، والتي هي بأكثريتها الساحقة من غير العرب والمسلمين. وهنا تحقق الشرطان المذكوران أعلاه، اللذان ذكرهما لي الأمين انعام رعد قبل ثلاثة عقود: أي نشوء سردية معاكسة قائمة على قيم الغرب ومرتكزاته، ووصولها لتكون قالباً لنضال الطلاب والشباب في سبيل تغيير أساسي في مجتمعاتهم وسياسات دولهم. فبدأ الطلاب يضعون شروطاً على جامعاتهم، مثل سحب الاستثمارات في الشركات التي تتعامل مع إسرائيل، خاصة تلك التي تنتج أسلحة وتقنيات عسكرية وأمنية، وصولاً الى المطالبة بوقف الحرب على غزة. وتبيّن مع الوقت، خلال الأشهر القليلة الماضية، لهؤلاء الطلاب، أن استثمارات هذه الجامعات وتعاملها مع تلك الشركات، ينقصها الكثير من الشفافية والحوكمة، مما زاد من إصرارهم على مطالبهم.

كنت في زيارة الى لندن خلال شهر آذار، وخلال زيارتي الى إحدى أكبر الجامعات البريطانية، دعاني أحد الطلاب العرب لحضور مناسبة لدعم فلسطين في الجامعة، سيكون هو فيها متحدثاً رئيسياً. ذهبت في تلك الأمسية الباردة، لأجد حوالي مئة شخص، معظمهم من طلبة وأساتذة الجامعة، وليس بينهم سوى قلة تساوي أصابع اليد الواحدة من المسلمين والعرب. والبقية معظمهم بريطانيين أو طلاباً آسيويين وأوروبيين. اجلسوني في الصف الأمامي كضيف خاص. وبعد انتهاء الكلمات، وعندما هممت للمغادرة، تفاجأت بعدد من الطلبة البريطانيين والأوروبيين، يصعدون الى المنصّة، مع كوفياتهم وعلم كبير لفلسطين، ويعلنون احتلال القاعة حتى تحقيق مطالبهم، وأعلنوا عشرة مطالب، بينها وقف الحرب في غزة، ووقف تعامل الجامعة مع اية مؤسسات أو شركات إسرائيلية او متعاملة مع إسرائيل، وسحب استثمارات الجامعة من كل المشاريع المرتبطة بإسرائيل، وتقديم اعتذار رسمي من الحكومة البريطانية للشعب الفلسطيني عن وعد بلفور وعما قام به الانتداب البريطاني من تشجيع للهجرة اليهودية بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومن تسليم أراضي فلسطين الى الوكالة اليهودية والحركة الصهيونية.

تفاجأتُ لهذه المطالب الجريئة، التي عجزت حتى أحزابنا التاريخية عن صياغة مثلها، وتعجّبت من وعي هؤلاء الطلاب وعمق فهمهم لأصل المشكلة، مع أنني قلت لنفسي أن هذه خطوة قد تكون شعبوية مؤقتة. وبعد ذلك، تتالت الاعتصامات في الجامعات البريطانية والأميركية، وانتشرت كالنار في الهشيم فكرة التخييم Encampment في الجامعات أو احتلال القاعات، وتحوّلت المسألة الفلسطينية الى قضية حقوق للطلاب والشباب في الغرب، بالتعبير عن رأيهم وبدورهم في إحداث تغييرات أساسية في مجتمعاتهم وسياسات دولهم. وصرنا نرى اعلام فلسطين والكوفية الفلسطينية في حفلات التخرج والمحاضرات والحياة الجامعية، كرمز للحرية والتغيير ودور الشباب والطلبة والنخب، وللاعتراض على السرديات المفروضة والسياسات غير الشفافة وغير المسؤولة، والاستخدام العشوائي لأموال دافعي الضرائب في الغرب لخدمة أهداف استعمارية معاكسة للقيم التي تبشر بها تلك الدول، وبالتالي صارت فلسطين رمزاً للمطالبة بالمزيد من الحوكمة والإصلاح والتغيير في المجتمعات الغربية نفسها.

هذه التحرّكات غير المتوقعة من الحكومات الغربية أفقدتها صوابها، فقامت باستخدام العنف والاعتقالات والفصل من الجامعات والانتقام ووقف المنح، لتفريق الاعتصامات الطلابية. مما انتج المزيد من ترسيخ قناعات الطلاب بما يوقومون به، وبدأت التصريحات بأن هذه الاعتقالات خدمتهم في تحسس ما يعاني منه الشعب الفلسطيني في عزة، حيث القمع والقتل والحصار والتجاوزات. وأصبح الطلاب والأساتذة المعتقلون والمنكّل بهم ابطالاً في نظر زملائهم. وتمت استعادة أحداث مشابهة من الذاكرة الشعبية الأميركية، مثل دور اعتصامات الطلاب في الستينات في وقف حرب فيتنام، والتي كان مسرحها نفس الجامعات الأساسية التي تحرك طلابها اليوم، مثل كولومبيا وهارفارد وبنسلفانيا وكاليفورنيا في لوس انجلوس وتكساس وغيرها.

ختاماً، قد تستطيع الحكومات المحلية وأجهزة الشرطة والأمن في الغرب من تفكيك مخيمات اعتصام الطلاب، أو إخماد بعض مظاهر الاحتجاج بالقوة والتهديد والانتقام. لكنها لن تستطيع إخماد روح الانتفاض في نفوس هؤلاء الطلاب والشباب والنخب، وعقولهم ووجدانهم، ولا إعادة تدجينهم وإلهائهم بمسائل محلية وفردية باهتة، ولا إعادة المسألة الفلسطينية الى غياهب النسيان، ولا إعادة فرض السردية الصهيونية الغربية الرسمية، التي طالما صورت إسرائيل كضحية للإرهاب العربي والمسلم والفلسطيني. خاصة في ظل فشل جيش العدو من تحقيق أي من أهدافه المعلنة في الحرب. والوقت يسير في غير مصلحة هذا الخط التقليدي، في ظل انتخابات رئاسية أميركية بعد أشهر، حيث سيضطر كل من الحزبين المتنافسين، الى استمالة جيل الشباب والطلاب والنخب، إضافة الى الأقليات المتنوعة، خاصة في الولايات المتأرجحة، والتي عادة ما يكون لها دور حاسم في نتائج هذه الانتخابات.